آراء حرةالرئيسية

التحوّل إلى “اقتصاد الحرب” في زمن كورونا سيغيّر العالم

ترجمة خاصةبوابة الهدف
في مقالٍ نشرته “مجلة الفورين بوليسي الأمريكية” على موقعها الإلكتروني، 26 مارس/آذار الماضي، رصدته بوابة الهدف، لفت كاتب يدعى نيكولاس مالدير النظر إلى استعانة دول عدّة حول العالم بـ”اقتصاد الحرب” في إطار معركتها ضد فيروس كورونا المستجد، وفي مقدّمة مقاله أشار مالدير إلى “وصف الرئيس الصيني شي جين بينغ جهود بلاده في مواجهة فايروس بـ”حرب الشعب” كما أشار إلى وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنفسه بـ”رئيس زمن الحرب” كذلك إلى إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون أن فرنسا “في حالة حرب مع كوفيد-19” وحتى أولئك الذين يتجنبون لغة الحرب مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يعترفون بأن الفيروس يتطلب مستوى عالي من العمل الجماعي لم يحدث له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.

ودلل الكاتب من خلال هذه الأمثلة إلى انتشار خطاب التعبئة الحربي في كل مكان حول العالم، وفي ذات السياق دعت الحكومة في إيطاليا، البلد الأكثر تضررًا في أوروبا من الفيروس، بشكل واضح وصريح إلى “التسلّح باقتصاد الحرب” لمواجهة المرض، وإعلان الحكومة الأمريكية تفعيل العمل بموجب “قانون الإنتاج الدفاعي”.

وهو قانون ظهر في زمن الحرب الباردة، ويسمح للحكومة بتحديد الأولويات وتخصيص الموارد للمساعدة في توسيع الصناعات الخاصة في القطاعات الاستراتيجية، وجاءت هذه الخطوة من أجل بناء قاعدة ضخمة للإنتاج الطبي.

في مقاله المعنون بـ”التحول إلى اقتصاد الحرب في زمن كورونا؛ سيغير العالم” يتساءل الكاتب عن فعالية وفائدة استدعاء “اقتصاد الحرب” كنموذج في معركة البشرية ضد فيروس كوفيد-19، مشيرًا إلى مجموعة متنوعة من المصطلحات التي تعبّر عن معنى ذلك: كالإنتاجية، التضحية، التضامن والاستجابة السريعة، وفي ضوء الدروس التي يقدمها تاريخ إقتصاد الحرب في القرن العشرين يدعو الكاتب الحكومات الكف عن مجرد استخدام خطاب الحرب.

بين كورونا والحرب

على الرغم من إقرار الكاتب بتقاطع الجهود العالمية لمكافحة المرض وحالات الطوارئ في زمن الحرب خاصة في حاجته إلى “توسيع الإنتاج والرعاية” إلا أنّه يعتبر أن “الإنتاج” في اقتصاد الحرب دائمًا ما كان “إنتاجًا وطنيًا” في معظم تجارب اقتصاديّات الحرب في القرن العشرين، أما في معركة البشرية ضد فيروس كورونا يرى الكاتب أن الانتاج كي يكون أكثر فعالية في مكافحة الفيروس، يجب أن يكون “انتاجًا دوليًا” وأن تكون “التعبئة الطبية ضد الفيروس عالمية”.

ويضرب مثالًا على ذلك من خلال تسليط الضوء على تجربة الولايات المتحدة الأمريكية في إنتاج أجهزة التنفس الصناعي، إذ يوفر في الوقت الحالي 173 ألف جهاز تنفس اصطناعي في الولايات المتحدة ويمكن أن يتجاوز احتياجها سنويًا بين 40- 50 ألف جهاز، ونظرًا لتعقيد إنتاج أجهزة التنفس الصناعي فإن اقتصاد الحرب سيحول بعض المصانع في الولايات المتحدة إلى إنتاج الآلات الطبية التي لن تكفي النقص داخل الولايات المتحدة نفسها.

ويقترح الكاتب حلًا لذلك، يتمثل في اعتماد الدول العاجزة كالولايات المتحدة على دول شرق آسيا، التي سيطرت على المرض نسبيًا، من أجل إنتاج أكثر فاعلية لأجهزة تنفس صناعي لسد جزء كبير من الحاجة العالمية، ويعرض مالدير مقترحه مشيرًا إلى أن التحليلات لعام 2020 تفيد بأن “عمليات النقل الجوية للأجهزة الطبية من الصين ستكون ضرورية لتدعيم حالة الطوارئ في العالم”.

ويشير إلى أن الجانب الوحيد المتطابق تمامًا بين جائحة كورونا والحرب يتمثل في “حالة الموت الجماعي واسعة النطاق” ومن جهة أخرى يشير الكاتب إلى الجانب المعاكس تمامًا في كثير من النواحي لـ”اقتصاديّات الحرب” وهو ما يصفه المحللون الماليون بـ”اقتصاديّات الإغلاق”.

بإستثناء علاج المصابين بفيروس كورونا، أغلقت الحكومات بشكل شبه عالمي الإنتاج بدلًامن أن تزيده. في حين أنه خلال الحربين العالميتين، تُرجمت “التعبئة الاقتصادية” بتشغيل أعداد غير مسبوقة من العمال والعاملات في الإنتاج الحربي الضخم. أما الإغلاق الشامل في زمن كورونا جعل ملايين الموظفين في قطاعي التصنيع والخدمات عاطلين عن العمل، ويشير مالدير إلى ذلك كإختلاف جوهري وحاسم في مقارنته بين النموذجين.

وفي سياق بحثه عن أوجه الاختلاف والتشابه، يقول الكاتب:”غالبًا ما تقيّد حالات الطوارئ الاقتصاديّات، ففي اقتصاديّات الحرب في أوائل القرن العشرين كانت المعضلة الرئيسية عادة هي الاختيار بين إعطاء الأولوية للدفاع أو الإنتاج المدني، وهذه المعضلة معروفة في علم الاقتصاد الكلي بمعضلة “البنادق أو الزبدة”.

يضيف:”يجبرنا الفيروس على التفكير مليًا في كيفية التوفيق بين تدابير الصحة العامة والإنتاج الاقتصادي، لكن هذه ليست مشكلة تحديد أولويات النفقات أو الموارد المحدودة بل الاستمرارية، على المدى القصير فإن متطلبات الوقاية من الأمراض مثل إجراءات الحجر الصحي ستعرّض مصدر رزق الذين يعتمدون على أشكال أخرى من الإنتاج الرأسمالي للخطر، وفقط التدخل الحكومي المكثف لحماية قنوات التداول الاقتصادي يمكن أن يحل هذا التوتر بطريقة لا تضحي بالأولى من أجل الأخيرة، وقد نسمي هذه المعضلة ” أجهزة التنفس الصناعي أو الزبدة”.

ويرى الكاتب أنّ:”تدخّل الدولة لا مفر منه” وفي معيّة تدخل الدولة، يعد كذلك اقتصاد الحرب مكانًا لتدخّل “الخيال التكنوقراطي” إذ تمنح الأزمات دائمًا صانعي السياسات “الإصلاحيين” فرصةً لتجاوز الجمود التشريعي وجماعات المصالح.

كورونا والتغيير الجذري

تمثّل جائحة كورونا العالمية “هامشًا لتنفيذ أفكارٍ كانت تعتبر جذرية للغاية قبل أشهر فقط” وعلى سبيل المثال، تبنّى المشرعون في الولايات المتحدة، سريعًا، أفكارًا يسارية، من بينها: “المساعدات المالية، وتجميد الرهن العقاري، وتأميم الشركات المتعثرة”.

ويذكر الكاتب أنه و”لفترة طويلة سلط اليسار التقدمي الضوء على مشاكل كشف عنها انتشار الفيروس التاجي، مؤخرًا، ومن بينها: العمالة غير المستقرة، فجوة الرواتب، وعدم المساواة في الثروة، والتكلفة الباهظة للرعاية الصحية والإسكان والتعليم، وخطر المديونية الشخصية.

واستدرك الكاتب قائلاً: “لكن إدارة الأزمات الناجمة، لا تعني بالضرورة اصلاح دائم” ويتابع: “في حين يمكن أن تكون اقتصاديّات الحرب حاضنات قوية للتغيير السياسي” لكنه يشير إلى أن أفكار التكنوقراط لا تصمد كثيرًا في ظل تحالفات سياسية وانتخابية قوية.

وأضاف :”إلا أن بعض هذه الأفكار والتي ظهرت في زمن الحرب كتدابير استثنائية، رسّخت للعديد من السياسات المستقبلية في أوروبا” ويضرب مثلاً من تجارب الماضي ويقول :”في بريطانيا وفرنسا وألمانيا ما بين الحربين استحدث برنامج الدعم المالي لـ”ضحايا الحرب” مثل الأرامل والأيتام والمعاقين وهو الذي أوجد الأسباب لبرامج المعاشات التقاعدية الشاملة ورعاية الأطفال”.

وفي هذا السياق، ينوّه الكاتب إلى استنتاجًا مهمًا، يقول: “إذا تطورت الاستجابة لتدابير الطوارئ في زمن كوفيد-19؛ فستشكّل تغيرات جذرية على المدى البعيد، على سبيل المثال: يمكن أن يؤدي تسريح الملايين من العاملين إلى تشكيل مجموعات شبه منظمة جديدة تلعب هذه المجموعات “دورًا سياسيًا مستقبليًا”.

تغير محفوف بالمخاطر

يخلق اقتصاد الحرب أنظمة سياسية صارمة؛ نظرًا لاعتمادها على إجراءات الدولة، ولا يلغي ذلك السياسة، بل يرفع مخاطرها، ومع زيادة فرص التمكين والإثراء تنشأ منافع وأعباء جديدة تكتشف فيها لبعض الجماعات: القوة والموارد على نحو مفرط، وعلى حساب الأخرين، ويمكن لحالات الطوارئ القصيرة أن تنحّي جانبًا أسئلة توزيع الموارد والأجور من الجدل السياسي إلا أن حالات الطوارئ طويلة الأمد التي تشبه الحرب تزيد من فرصة النقابات في تقوية سلطتها.

ويشير الكاتب إلى المثال التالي ليؤكد الكلام أعلاه أنه “في أوائل القرن العشرين زاد الإنتاج الحربي قوة النقابات العمالية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة وغيرها، حتى أهم المفاوضات بين النقابات، وأصحاب العمال كانت في الفترات التي أعقبت الحربين 1918-1921 و 1944- 1948 التي شهدت أكبر موجات إضرابات عمالية في القرن العشرين.

ويضف :”في زمن كورونا، بعد عقود من الهبوط النقابي، أرسلت الاقتصاديّات الغربية الكثير من قوتها العاملة إلى المنازل، وزادت بشكل كبير ومفاجئ من اعتمادها على المجموعات الحيوية من العاملين في: قطاعات الرعاية، والخدمات اللوجستية، وتجارة التجزئة كالأطباء، والممرضات، وأفراد التوصيل، وعمال البريد، والنقل، وموظفي متاجر البقالة، وعمال النظافة، والصرف الصحي، والميكانيكيين، وموظفي التكنولوجيا، والمزارعين وهؤلاء هم روح أي مجتمع العامل”.

ويتابع :”لا توجد سابقة لهذا المزيج المتناقض من التعبئة، وتسريح العمّال، فيما تندمج الأعمال المكتبية ورعاية الأطفال والعمل المنزلي كما لم يحدث من قبل بسبب عمل الكثير من الناس في بيوتهم، واهتمامهم بأطفالهم، إلى جانب تأديتهم للأعمال المنزلية.

نحو اقتصاد وطني وأخلاقي

تاريخيًا، قادت اقتصاديّات الحرب العديد من المبادرات التي عززت بشكل كبير روح التضامن بين أفراد المجتمع؛ فالملايين تطوعوا للقتال بينما عمل المدنيون في المصانع والمدارس والمستشفيات، وتمكنت الدول من إنشاء اقتصاد أخلاقي جديد يحتقر المركزية الفردية التي تستغل الحرب لتحقيق مكاسب خاصة، في المجتمعات الأوروبية بين عامي 1914 – 1945 احتقرت الأفراد الذين حققوا أرباحًا هائلة من الحرب بينما ضحّى الآخرون بحياتهم أو تطوعوا للعمل خدمة لبلادهم.

بين عامي 1915 و1918، أولى الأدوات التي ضربت المستفيدين من الحرب هي رفع الضريبة على الأرباح الزائدة، إذ فرضت الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى ضرائب على أرباح الأفراد والشركات الخاصة، ووصلت الضرائب على الشركات الأمريكية بحلول عام 1943 إلى 95% عن كل دولار تجنيه الشركة فوق معدل 8% من العائد على رأس المال.

لم يعيد اقتصاد الحرب صياغة الدخل المشروع فقط، بل يؤكد المؤرخ مارك ويلسون “أنّ أحد الابتكارات القانونية التي عُمل بها للإنفاق على شراء الأسلحة في زمن الحرب، هي تطوير الولايات المتحدة لما يسمّى بـ”إعادة التفاوض القانوني” الذي سمح لها بإعادة النظر في العقود الخاصة المنجزة، والمطالبة بأسعار أقل في الحالات التي تم فيها فرض رسوم إضافية على الحكومة من قبل الموردين الخاصين، وكذلك أعاد اقتصاد الحرب صياغة “التخطيط الحضري” إذ تعرض الملاّك للتدقيق باعتبارهم مستفيدين من الحرب، ورسّخت الحرب العالمية الأولى فكرة وضع سقف للايجار” و”الحفاظ على كلفة معيشية تأخذ بالاعتبار متوسط دخل العمال، وأدت قوانين الحد الأدنى من الأجور نفس الدور، مما ضمن حصول العمال على نصيبهم العادل من المكاسب في زمن الحرب”.

وفي هذا السياق يقول الكاتب:” تقدم اقتصاديّات الحرب أفكارًا قيمة حول كيفية معالجة الوباء الحالي، فيمكن فرض ضرائب على الأرباح الزائدة لشركات الأدوية ووسطاء الرعاية الصحية لضمان عدم جني فوائد حصرية من المعركة ضد الفيروس”.

وتقدر مجلة الايكونومست أنّ مزودي الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يحققون أرباحًا زائدة، تبلغ 65 مليار دولار سنويًا،وهذا يكفي لإنتاج 1,2 مليون جهاز تنفس صناعي، علمًا أنّ تكلفة القطعة منه 50 ألف دولار.

ويضيف الكتاب :”أو استثمار الفائض بالأرباح في إقامة مستشفيات لعلاج الملايين من الأشخاص المصابين بكوفيد-19″. ويجب “إعادة النظر في عقود الامدادات الطبية التي تجني أرباح مفرطة” و “إعادة النظر في سقف سعر الإيجار، والحد الأدنى من الأجور لتخفيف الضغط على الميزانيات المعيشية للأسر”.

ويتابع :”لا تعد التدابير الاقتصادية، والمالية وحدها كافية، بل هناك حاجة لتدخلات رئيسية في الإسكان، والمرافق العامة، ويجب توسيع مبادرات إعادة وصل المياه لأولئك الذين قُطعت عنهم سابقًا، ويمكن للحكومات استخدام قوانين سابقة لتوسيع قدرة الرعاية الصحية الطارئة باستخدام فنادق، وحدائق، ومساحات فارغة”.

ويزيد :”تعد العزلة عن الاقتصاد العالمي: إما بسبب أزمة اقتصادية، أو حصارٌ مفروض من جيوش العدو بمثابة حافز قوي لمثل هذا التطور الذي أدى إلى تطوير أشكال صناعية محلية جديدة خلال الحروب العالمية”.

في نهاية المقال، يقول الكاتب :”لا بدّ من الاستفادة من دروس الماضي للتغلّب على الفيروس والتبعات الاجتماعية والاقتصادية التي سوف يسببها… وعلى الرغم أنّ حصيلة الوفيات سترتفع، إلا أنّ الوباء سينتهي” و “توفّراقتصاديّات الحرب نموذجًا للنظر بشكلٍ أوسع” للأزمة.

ويختم :” بعد عودة الحياة الطبيعية، من الصعب تخيل الاقتصاد العالمي ما بعد كورونا، سواءً انحسر الوباء بعد عدة أشهر أو سنوات من الآن، من غير المرجح أن تنتهي الحالة الاستثنائية الأكبر، التي صنعت سياسات العمل الجماعي القائمة اليوم” منوهًا إلى أن اقتصاديّات الحرب في القرن العشرين لعبت دورًا مهما في ازدهار اقتصاديّات زمن السلم التي أعقبتها” و”يجب الاستفادة من دروس التضامن والابتكار التي خلقها نوعًا جديدًا من المخاطر الحربية، وهو: فيروس كورونا المستجد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى