الفلسفة المسرحية من الفكر المجرد إلى الأداء الحي”

  • بتاريخ : فبراير 12, 2025 - 10:15 ص
  • الزيارات : 12
  • هيثم مصباح أفريك تيڤي 

    في عالم الفكر والفن، يُعد التقاطع بين الفلسفة والمسرح من أعمق وأغنى العلاقات التي يمكن أن نرصدها. حيث يُنظر إلى الفلسفة عادة على أنها علم يعنى بالتفكير المجرد والتساؤلات النظرية، وتهدف إلى فهم وتحليل العالم من خلال مفاهيم مجردة وأسئلة وجودية معقدة. في المقابل، يعكف المسرح على تجسيد هذه الأفكار بشكل ملموس عبر الشخصيات، والحوار، والصراع الدرامي. وبذلك، يعتبر المسرح مساحة للتعبير الفني والحركي. يعكس عنوان المقال هذا التفاعل الفريد بين التفكير العقلي والفن التعبيري؛ إذ أن الفلسفة، التي غالبًا ما تركز على تفسير مفاهيم معقدة مثل الحرية، الوجود، والعدالة، قد تبدو في كثير من الأحيان بعيدة ومعقدة. إلا أن المسرح، من خلال صوره الحية والمباشرة، يجعل هذه الأفكار تظهر بشكل مرئي ومؤثر. على خشبة المسرح، تتحول الأسئلة الفلسفية إلى تجارب بشرية حية، حيث يتمكن الجمهور من التفاعل مع هذه القضايا بشكل عاطفي وتجريبي.

    غالبًا ما تُطرح أسئلة فلسفية عميقة حول معنى الحياة، حيث يبدو الإنسان عالقًا في حالة من الانتظار المستمر، بحثًا عن هدف أو معنى لا يظهر أبدًا. يعيش هؤلاء الأفراد في حالة من اللاجدوى، وتُكرر أيامهم في محاولات يائسة للعثور على إجابة لسؤال وجودي عظيم، دون أن يجدوا أي معنى حقيقي. وبالتالي، تستمر حياتهم في دوامة من الانتظار والبحث عن هدف غامض قد لا يتحقق أبدًا. هذا الوجود العبثي، الذي يسعى فيه الشخص للعثور على غاية ولكنه لا يصل إليها، يشبه تمامًا ما وقع لفلاديمير وإستراجون، اللذين كانا يجلسان في مكان ناءٍ، منتظرين “غودو”. في حين يبدو أن غودو لن يأتي أبدًا، يبقى الشخصان في انتظار مستمر، ما يعكس حالة من الشلل الوجودي في حياتهما. بذلك، يعكس هذا الوجود فلسفة تطرح تساؤلات حول جدوى الحياة وأهمية اللحظات التي نمضيها في البحث عن هدف قد لا يدركه أحد. في هذا السياق، يصبح السؤال الأكبر: ماذا يعني أن نعيش، وكيف نواجه هذا الانتظار اللامتناهي؟

    على صعيد آخر، هناك رؤى فلسفية تعكس كيف يمكن أن يصبح وجود الإنسان سجنًا نفسيًا واجتماعيًا. في هذه الرؤية، يجد الأفراد أنفسهم في مكان مغلق، حيث لا يمكنهم الهروب من أنفسهم أو من الآخرين. ومع كل تفاعل مع الآخرين، يظهر شعور بالعبودية الذاتية. إذ يجد كل شخص نفسه عالقًا في دائرة لا تنتهي من اللوم والمواجهة مع ذاته، بينما يعجز عن إيجاد مخرج من هذا الصراع الداخلي والخارجي. كما حدث مع إيستل واينس، وغارسان. كانوا مسجونين في غرفة، يتبين لهم أن هذه الغرفة هي “الجحيم”، ولكن الجحيم ليس مكانًا ماديًا أو فيزيائيًا، بل هو حالة نفسية، حيث يكتشفون أن معاناتهم تنبع من نظرتهم لأنفسهم وللآخرين. لا يوجد تعذيب جسدي، بل العذاب يكمن في وجودهم المستمر مع بعضهم البعض ومع أنفسهم، إذ لا يمكنهم الهروب من واقعهم أو من أفعالهم الماضية. في هذا السياق، يُطرح السؤال: هل يمكن للفرد أن يكون حراً في عالم يفرض عليه وجود الآخر؟ وهل يتمكن من الهروب من قيود هذه العلاقات المعقدة؟

    كلا التصورين يثيران أسئلة فلسفية جوهرية حول معنى الحياة، والحرية، والوجود، ويحولان هذه الأسئلة إلى تجارب إنسانية حية. وهنا، يجسد الفن المسرحي هذه الأفكار عبر حوارات وصراعات بين شخصيات قد تبدو عادية، لكن الصراع الداخلي الذي يعيشه كل منهم يُحيل إلى أعمق الأسئلة الوجودية التي لطالما طرحها الفلاسفة.

    المسرح ليس فقط مكانًا لتجسيد الفلسفة بشكل فردي، بل أصبح أيضًا وسيلة لطرح قضايا اجتماعية وسياسية. فالفلسفة المسرحية تهتم بالتفاعل بين الفكر والمجتمع، وكيف أن المسرح يمكن أن يُستخدم لنقد الواقع الاجتماعي والثقافي. أحد الأمثلة على ذلك هو “مسرح التكامل” كما يقدمه المخرج والمسرحي المغربي الحاج محمد خشلة، الذي يرى في المسرح أداة لدمج الفنون المختلفة، مثل الموسيقى والرقص والدراما، من أجل معالجة قضايا اجتماعية ثقافية، بما في ذلك الوجود الجماعي والتفاعلات الإنسانية.

    مسرح التكامل، الذي يتبنى منهجًا يدمج بين الفلسفة والفن، يقدم للمتفرج فرصة لتجربة قضايا وجودية واجتماعية بشكل أكثر تفاعلًا. هذا النوع من المسرح يُعتبر جسرًا بين الأفكار الفلسفية والمشاعر الإنسانية، حيث يُترجم الفكر الفلسفي إلى تجسيد حي يؤدي إلى إحداث تغييرات فكرية في المجتمع.

    في أكتوبر من سنة 2022، وتحديدًا في يوم 26 من ذلك الشهر، كانت لي تجربة فريدة في عالم المسرح. شاركت في عرض مسرحي مع زملائي في دار شباب القدس بمدينة فاس، تحت إشراف مجموعة من الشباب المتمرسين في فن المسرح. كانت تلك اللحظة بداية رحلة جديدة لي في عالم كان يبدو في البداية غريبًا، لكن سرعان ما اكتشفت أنه يحمل لي الكثير من المعاني والتحديات.

    كان الدور الذي أديته يدور حول شخصية شاب طموح وخلوق، يعيش في بيئة آمنة ومستقرة، يؤدي عباداته بأعلى درجات الإخلاص. تصادف في أحد الأيام مع فتاة تبدو طيبة وحنونة، فوقع في حبها بسبب تعاطفها معه. ولكن ما لبثت أن تبين له أن تلك الفتاة كانت تخفي نوايا انتقامية، فهي كانت تسعى فقط لتدمير حياته وتحقيق أهدافها الشخصية على حسابه. وبالفعل، تمكنت الفتاة من دفع الشاب نحو عالم المخدرات والجريمة، حتى أصبح شخصًا مختلفًا تمامًا عن شخصيته السابقة، وأصبح مغلوبًا على أمره.

    تطورت أحداث العرض المسرحي حتى وصل الشاب إلى نقطة الانهيار، حيث أصبح شخصًا غريبًا عن ذاته، وراغبًا في سرقة أحد الأشخاص فقط ليتمكن من شراء المخدرات. ولكن، وفي لحظة مفصلية، التقى بشابة أخرى في وضع مشابه، يتيمة الأب، تعمل من أجل إعالة أسرتها. بدلاً من الاستمرار في جريمته، شعر بتأثر بالغ عندما رآها تبكي، فقرر مساعدتها بدلًا من مواصلة الطريق الذي كان يسلكه. سرد لها قصته مع الفتاة الشريرة وكيف دمرته، فشعرت هي أيضًا بالأسى لمصيره. بينهما تطور علاقة عاطفية قوية، وفي النهاية، تزوجا معًا، ليبدأ الشاب حياة جديدة مليئة بالأمل.

    كان هذا الدور مؤثرًا جدًا بالنسبة لي، وخاصة أنه يتطلب تجسيد شخصية تنقلب من الطيبة إلى الانحراف، ثم العودة إلى التوبة والتغيير. في البداية، لم أكن متأكدًا من قدرتي على أداء هذا الدور بكل هذا التنوع، لكن المخرج المسرحي كان واثقًا من قدراتي. عند أدائي للدور، شعرت بالتحدي في تحويل هذه التحولات في الشخصية بشكل حقيقي. المفاجأة كانت في أنني قدمت الدور بحرفية عالية، وهذا ما أكده زملائي والمخرج.

    بصراحة، كانت تلك التجربة في المسرح نقطة تحول في حياتي. المسرح بالنسبة لي لم يكن مجرد وسيلة للترفيه أو قضاء الوقت، بل كان مساحة للتأمل والتفاعل مع قضايا اجتماعية ووجودية عميقة. تعلمت من خلاله كيفية التعامل مع مشاعر متناقضة مثل الحب، الغضب، الندم، والتوبة، وكيف يمكن للإنسان أن يواجه تحدياته الشخصية وأخطائه الماضية. وقد شعرت بأنني أصبحت أكثر قدرة على فهم تعقيدات النفس البشرية وتقديمها بطريقة واقعية ومؤثرة.

    إلى جانب ذلك، فإن المسرح علمني أهمية التعاون الجماعي والعمل مع الزملاء لتحقيق رؤية مشتركة، كما اكتشفت كيف أن كل شخصية، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، تساهم في نجاح العمل ككل. تجربتي في المسرح لم تكن مجرد تمثيل على خشبة المسرح، بل كانت درسًا في الحياة، تعلمت فيه كيف أعيش الدور، وكيف أعيش الحياة نفسها بكل تعقيداتها وأبعادها.

    مراجع:
    ✓مسرحية في إنتظار جودو (غودو)، صمويل بيكيت، ترجمة وتقديم بول شاوول
    ✓JEAN-PAUL SARTRE, NO EXIT, AND THREE OTHER PLAYS
    ✓مسرح التكامل (Théâtre Intègral)، محمد خشلة، منشورات أمنية للإبداع الفني والتواصل الأدبي.