هيثم مصباح/ فاعل جمعوي وطالب باحث في مجال الفلسفة
الفلسفة، في جوهرها، تسعى لفهم معنى الحياة وعلاقة الفرد بالمجتمع، والإنسان منذ بداية فلسفته، بحث في معنى وجوده وطرق تحقيق ذاته ضمن محيطه الاجتماعي، في هذا الإطار، يُطرح العمل الجمعوي كوسيلة فريدة لتحقيق الذات الفردية والجماعية في آن واحد، حيث يشكل هذا العمل فضاءً للتفاعل والتأثير المتبادل بين الفرد ومجتمعه.
يتمحور هذا المقال حول العلاقة بين العمل الجمعوي وتحقيق الكمال الإنساني، وتحليل كيف يمكن للفرد تحقيق كماله الإنساني عبر الإنخراط في العمل الجمعوي، مستندًا إلى تصورات فلسفية من أفلاطون وأرسطو إلى كانط وسارتر.
عندما ننظر إلى الجذور الفلسفية للعمل الجمعوي، نجد الفيلسوف المثالي أفلاطون في “الجمهورية” قد اعتبر العدالة تتحقق من خلال التعاون بين أفراد المجتمع، حيث يؤدي كل فرد دوره بناءً على مهاراته ووظيفته. في هذا السياق، يمكن فهم العمل الجمعوي كأداة لتحقيق الانسجام الاجتماعي والعدالة، فإذا ساهم كل فرد في بناء مجتمع متكامل وفقًا لقدراته، يتحقق نوع من العدالة الاجتماعية التي تسعى إلى رفاهية الجميع، العمل الجمعوي، من خلال هذا المنظور، يمثل التفاعل المثمر بين الأفراد لتحقيق العدالة التي تعد حجر الزاوية في أي مجتمع ناجح.
أرسطو من جانبه في “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، يرى أن الإنسان “كائن اجتماعي بطبعه”. بالنسبة له، الحياة الكاملة لا تتحقق إلا من خلال التفاعل الاجتماعي المستمر. وعليه، فإن الفعل الجمعوي يمثل وسيلة لتطوير الفضائل الإنسانية مثل العدالة، الكرم، والشجاعة، وكلها تساهم في تحقيق السعادة والكمال. حين يشارك الأفراد في الأنشطة الجمعوية، مثل التعاون في حملات التوعية أو الأعمال الخيرية، فإنهم لا يساهمون فقط في تحسين مجتمعهم، بل يعززون من الفضائل التي تؤدي إلى الكمال الشخصي والجماعي في آن واحد.
في العصور الوسطى، نجد أن توما الأكويني قد جمع بين الفكر المسيحي والفلسفة الأرسطية، حيث اعتبر التعاون بين الأفراد تعبيرًا عن الواجب الأخلاقي والديني، كان يعتقد أن العمل الجمعوي يهدف إلى تحقيق “المجتمع الصالح”، الذي يعد غاية أخلاقية وروحية. هنا، يلتقي الفعل الجمعوي مع الواجبات الدينية والأخلاقية، مما يضاعف من قيمته كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية والأخلاقية.
وبالانتقال إلى العصر الحديث، نجد أن جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي” قد طرح فكرة الإرادة العامة، التي تتجسد في القوانين التي يتفق عليها الأفراد لصالح الجميع. في هذا الإطار، يمكن تفسير العمل التطوعي كوسيلة لتجسيد هذه الإرادة العامة، حيث يلتزم الأفراد بمصلحة المجتمع من خلال تفاعلهم المستمر لتحقيق أهداف مشتركة. هكذا يصبح العمل الجمعوي الأداة التي تمكن الأفراد من تجسيد القيم الاجتماعية المتفق عليها في إطار من التعاون المشترك.
من جهة أخرى، إيمانويل كانط في “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” أكد أن الفعل الأخلاقي يجب أن يستند إلى قواعد عالمية. بالنسبة له، لا يمكن للفرد أن يحقق مصالحه الشخصية بمعزل عن مصالح الآخرين، مما يجعل المساهمة في رفاهية المجتمع ضرورة أخلاقية. بناءً على هذا، يصبح العمل الجمعوي واجبًا أخلاقيًا، يعبر عن الكرامة الإنسانية المشتركة ويشمل التعاون الذي يسهم في رفاهية الجميع.
وفي سياق آخر، نجد أن جان بول سارتر في فلسفته الوجودية يرى أن الإنسان يحقق ذاته من خلال أفعاله، حيث تصبح الحرية مرتبطة بالمسؤولية الجماعية. بالنسبة له، العمل الجمعوي ليس مجرد نشاط اجتماعي، بل هو أداة لتحرير الإنسان وتحقيق ذاته. من خلال العمل الجمعوي، يخلق الإنسان معنى لحياته، ويساهم في تحسين الظروف الاجتماعية، وبالتالي يصبح هذا العمل تعبيرًا عن الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية في آن واحد.
يمثل العمل الجمعوي تجربة عملية تجمع بين النظري والعملي، ومن خلال مشاركتي في الأنشطة الجمعوية، مثل حملات التوعية الصحية، بحيث نظمنا ورش عمل تهدف إلى رفع الوعي حول الوقاية من الأمراض وتعزيز أنماط الحياة الصحية. من خلال هذه الأنشطة، تعلمت كيفية التواصل الفعّال مع أفراد المجتمع وكيفية التأثير الإيجابي في سلوكهم.
ثم قمت بزيارات مراكز رعاية المسنين، فقد منحتني فرصة للتفاعل مع كبار السن، مما ساهم في تعزيز مشاعر التعاطف والاحترام لديهم. هذه التجربة لم تكن مجرد مساعدة للآخرين، بل شكلت فرصة لتطوير ذاتي وتنمية إحساسي بالمسؤولية المجتمعية.
فالعمل الجمعوي يتجاوز كونه نشاطًا تطوعيًا ليصبح وسيلة فلسفية تعكس علاقة الفرد بمجتمعه، استنادًا إلى الرؤى الفلسفية، يمكن القول إن العمل الجمعوي يحقق التوازن بين النمو الشخصي والمسؤولية الجماعية، حيث يسهم الفرد في تحسين مجتمعه بينما يكتشف ذاته ويطوّر مهاراته.
من خلال استعراض التصورات الفلسفية وتجربة الانخراط في العمل الجمعوي، يتبين أن هذا النشاط يمثل سبيلًا لتحقيق الكمال الإنساني، فهو ليس مجرد وسيلة لخدمة الآخرين، بل أداة أساسية لتحقيق الذات والنمو في إطار مجتمعي، تبقى الدعوة مفتوحة لتجسيد الفلسفة في حياتنا اليومية عبر العمل الجمعوي، من أجل بناء مجتمع أكثر عدالة وتكاملاً.
المراجع
• أفلاطون، الجمهورية
• أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس
• توما الأكويني، نصوص مختارة
• جان جاك روسو، العقد الاجتماعي
• إيمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق
• جان بول سارتر، الوجود والعدم
مقال مفيد
مقال في قمة الروعة بحيت يجمع بين الفكر الفلسفي والعمل التضامني (العمل الجمعوي)