“قسم الإعلام بدار الوطن”
“جريمة ضد الأصول”، هو عنوان الرواية الصادرة عن دار “الوطن للصحافة والطباعة والنشر” عام 2023، لمؤلفتها الكاتبة نجاة البدوي، والواقعة في 388 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف أنيق، تصدرته صورة لسيدة خلف القضبان.
أول ما يسترعي انتباه القارئ العابر وهو يعثر على هذه الرواية في كشك أو مكتبة ما، أن عنوانها يحيل على دراسة اجتماعية والصورة الحزينة بدورها تعطي الانطباع نفسه، وهنا يكون استهلال الرواية بعنوان قد يكون تقريريا نوعا، هو اختبار لردة فعل المتلقي أولا، واختبار لصمود المتن أمام لافتة لا تحيل بتاتا على المضمون الإبداعي، لكنها تحيل حتما على موضوع هام وشاق أيضا، في جانبيه النفسي والاجتماعي.
السؤال الذي يطرح على ضفاف استقبال القارئ بهذا العنوان، يتمثل فيمن ظلم الآخر، العنوان أم الرواية، لأن الأول يعطي انطباع مغاير للمتن السردي، أما الثانية فتعطي كل شيء بدءا بالأسلوب السلس والأحداث المتعاقبة والمتتالية ومتعة القراءة وجمالية الوصف وحدة الوقائع وأيضا روعة الحكي.
حديث الظلم، تزيد من حدته، المقدمة التي هي عبارة عن مشهد مؤلم لواقعة اغتصاب طفلة، حيث انها كسرت الترقب وفق المتسرعين في استخلاص خواتم الروايات، لكنها حتما كانت نافعة جدا لمن يجيدون قراءة المتن بشمولية، أما القارئ العادي فنصفه سيجد نفسه أمام النهاية مباشرة وهي في الواقع بداية، والنصف الآخر سيجد نفسه مضطرا لمعرفة التفاصيل، وتلك هي اللعبة الحكائية التي نجحت فيها نجاة البدوي بكل تأكيد.
بالنسبة لدار الوطن، أظنها نجحت في مسعى إثارة فضول عدد كبير من القراء، فالعنوان هو مجرد واجهة، والتقديم هو مجرد استهلال، والصورة أيضا تدعم الرغبة في معرفة سر القضبان ووقوف تلك السيدة خلفها، وسر تلك الدموع، وهل هي الضحية أو الجانية في تلك “الجريمة ضد الأصول”.
أولا، تخيلوا لو كان هذا عنوان مسلسل اجتماعي درامي، كيف سيكون استقباله من طرف جمهور المشاهدين؟
الجواب بسيط، وهو استقبال حافل بكل تأكيد، لأن كلمات من قبيل الجريمة والأصول، هي أكثر إثارة للفضول في معرفة كل الفصول والتفاصيل، كما أنه كعمل نفترض أنه مصور تلفزيونيا، سيلهب حماس الجمهور ويجعله يترقب مشاهد بعينها.
الاسقاط نفسه يجوز على العمل الروائي المكتوب، فهو بوابة نحو فرجة مقروءة، ممتعة على قدر ألمها، ومشوقة على قدر النفور من بعض الشخصيات مثل الخال الثمل، ومهيجة للعواطف على قدر التعاطف مع الضحية الطفلة، لكن كيف ستسير الوقائع؟ ذلك ما تمكنت الكاتبة من حبكه بشكل ابداعي جميل وسلس.
بلاغة المدخل، وهو فصل “وفاة العربي”، كانت فيه الجدة حصن الطفلة، وكان الخال هو العدو الغاشم الذي يكسر إحساسها بالأمان، كل تلك التفاصيل عن يوميات الحضن الأصيل بعيدا عن حضن الأم أو رعاية الأب، جعل من الطفلة ضحية بامتياز، فهي منبوذة أو مرفوضة من طرف الوالدين، ومحبوبة من طرف الجدة ومهددة من طرف الخال، اما الجيران فتلك حكاية أخرى تتضارب فيها النوايا والآراء أيضا.
“عودة الام” وهو الفصل الثاني، يكشف عن حقائق أخرى في حياة الوالدة وهي تعيش حالة الزوجة الثانية المرفوضة من طرف الزوجة الأولى لرجل عربي، مسألة الرفض ركزت عليها الكاتبة ربما لتبرير عدم عيش الطفلة مع والدتها، وربما لتفسير تلك الاحاسيس المتناقضة حول الرغبة في الاستقرار والرغبات الأخرى في العيش بأمان.
تتوالى الفصول وتدخلنا الكاتبة في الحياة بكل بساطة، حياة طفلة ضحية اعتداء جنسي من طرف أحد الأقارب وهو خالها في هذه الواقعة التي تترتب عنها الكثير من التداعيات الحياتية المقبلة، رغم محاولة الانصهار في الفرح من خلال “في بيتنا عرس”، إلا أن “وفاة الجدة” تجعل الطريق في مسار آخر، مثل “زواج خالد”، و”مأساة ّأحمد”.
وتبقى حياة البطلة بين مد وجزر، بين “العروس الصغيرة” و”بيت الأب”، وهنا ينتصب حديث “الأبوة”، لتصدمنا نجاة البدوي بـ “رشيدة تقبض ثمن ابنتها مرتين”، لـ “يستمر البحث” من جديد ومجددا عن الأمل والأمان، في “فسحة” عبارة عن “نهاية مأساة سلمى”، لأن “الصغار يكبرون” ودائما تكون هناك “عودة إلى الواقع” في “البيت الجديد”، حيث نهاية “مأساة حنان” و”رحلة جديدة”.
هي أسماء شخصيات نسائية في رواية صادمة بحق، رواية تحمّل القارئ وزر يوميات مؤلمة وحزينة وآمال عريضة معلقة، خاصة عندما تتطرق بعد كل هذه المسافة في الحكي إلى “ضحية جديدة”، وتتساءل “هل يلتئم الجرح؟”، لكن الجواب يأتي مسرعا عبر فصل آخر يحمل “خطوة نحو المجهول” أو “نحو السلام الأبدي”.
وتختم الكاتبة بفصول متسارعة وأحداث ووقائع مهولة، مع “تغيير المنكر”، و”مخاض”، ثم تتفنن في وصف ما “قبل الجريمة” ولحظة “الهروب” ثم تختمها بـ “ليلة الجريمة”.
كل ما سلف لا يمت بصلة لغنى وثراء الرواية، هي عناوين فصول الرواية، التي دبجت نفسها وخطت المسير في طريق وعر نفسيا واجتماعيا، لتنتهي الرحلة بالـ “جريمة ضد الأصول”، وتلك إشارة، بعدم الكشف عن تفاصيل الحكاية، حتى لا تحرم القارئ من متعة مطالعتها واكتشاف الكثير من وقائعها وتجليات حروب نفسية ومعارك اجتماعية على ضفاف محاولة النجاة من لحظة ألم..