تفاقم الصراعات الجيوسياسية على المسرح الدولي.

  • بتاريخ : أكتوبر 8, 2020 - 5:08 م
  • الزيارات : 5
  • بقلم/ محمّد نادر العمري

    من الواضح أنه لن تكون هناك حلول جذرية قريبة للصراعات القائمة على مستوى النظام الدولي، في ظل الغموض الذي يكتنف شكل هذا النظام، وفقدان عامل التعاون الدولي في المجالات كافة.
    من جديد، يبدو أنَّ ساحات الصراع آخذة في التمدّد في ظلّ الفوضى التي يشهدها النظام الدّوليّ، نتيجة اتساع نطاق الصراعات وتغير موازين القوى الناجمة عن صعود وعودة قوى جديدة لتنافس الهيمنة الأميركية (روسيا والصين)، ورغبة بعض القوى في توسيع نفوذها وتصفية حساباتها (تركيا والكيان الإسرائيلي)، مستغلة وجود ظروف داخلية غير مستقرة أو توافر صراعات قابلة لهذا التوظيف، ولها جذور قديمة، وشكلت في مرحلة معينة ساحات للصراع أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الدوليين حينها، وهما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية.

    ومن بين هذه النماذج على سبيل الذكر وليس الحصر، قضية الصراع التركي اليوناني حول ترسيم الحدود البحرية، وقضية قبرص، والصراع الأرمني الأذربيجاني الذي تعود جذوره إلى عشرينيات القرن الماضي.

    ولكن اللافت في تجدد هذه الصراعات، وخصوصاً الصراع حول إقليم ناغورنو كاراباخ، أنه لم يكن نتيجة خلافات بين الدولتين فقط حول السيادة على الإقليم، بل نتيجة احتدام الصراع بين القوى، والرغبة في استثمار هذه الصراعات لتحقيق مكاسب سياسية في ملفات ثانية، من مثل ليبيا وسوريا، وحتى الغاز في المتوسط، فضلاً عن مكاسب اقتصادية تتمثل في تأزيم الصراعات لزيادة بيع الأسلحة والسيطرة على مصادر الطاقة أو التحكّم بخطوط نقلها، ما يؤكد النية المسبقة لإشعال هذه الجبهة بقرار إقليم ودولي، إذ جاءت بعد 3 أسابيع على انتهاء المناورات التركية – الأذربيجانية البرية والجوية التي استمرت أسبوعين، واستُخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة المتطورة التي كانت القوات التركية قد نقلتها إلى أذربيجان وبقيت فيها، وبعد تسليم تركيا قرابة 300 طائرة مسيرة لأذربيجان، ونقل الآلاف من المرتزقة السوريين من فصيلي “السلطان مراد” و”السلطان سليمان”، وغالبيتهم من التركمان السوريين وبعض العناصر القوميين الأتراك، إليها، ونشرهم على طول الحدود مع إقليم كاراباخ، فضلاً عن تجنيد من يستطيع حمل السلاح من المخيمات، نتيجة تردي أوضاعهم الاقتصادية، وانطلاق شرارة المواجهة الأخيرة من الجانب الآذري، بعد وضع بنك معلومات من الاستخبارات التركية.

    لذلك، إنّ توصيف الصراع بأنه ذو أبعاد جيوسياسية هو الأقرب إلى الواقع، وهو ما يفرض الوقوف عند عدة نقاط بغاية الأهمية لدى الدارسين والباحثين في العلاقات الدولية:

    أولاً، الصراع ليس جديداً، ولا يختلف كثيراً عن الصراع على الحدود البحرية التركية اليونانية، وهو صراع محلي، ولكنه بات اليوم جيوسياسياً، وهو ما ينبئ بأمرين؛ الأول لن يكون له حل جذري، بل سيبقى من الملفات المفتوحة، ويمكن توظيفه كلما دعت الحاجة إلى ذلك، والآخر احتمال تفجر المزيد من الصراعات القديمة.

    ثانياً، هناك حاجة تركية ملحة لفتح هذه الجبهة لعدة اعتبارات: أولها تحقيق إنجاز خارجي بعد جمود الملفين السوري والليبي، إن لم نقل عدم قدرة تركيا على تحقيق خرق في مفاوضاتها مع موسكو حولهما، وعدم قدرتها على تحقيق هدفها في المتوسط، واضطرارها إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات والإذعان لمطلب الاتحاد الأوروبي، بعد سحب سفن التنقيب من قبالة السواحل اليونانية، وثانيها رغبة تركيا في السيطرة على خطوط الطاقة لأداء دور تأثيري مستقبلي مع كل من روسيا والاتحاد الأوروبي، وثالثها حاجة داخلية لإردوغان في استثمار هذا الصراع لتحريك ما يسمى بالشعور القومي للأتراك، وسحب البساط وخلط الأوراق أمام مشاريع المعارضة، باعتبار أن تدخّله في هذا الصراع قد يغطّى بذريعة الدفاع عن الأصول والعرق التركي الذي يصل إلى آسيا الوسطى، فضلاً عن زيادة بيع الأسلحة لأذربيجان، وهو ما قد يساهم في تحسن الوضع الاقتصادي المتردي لتركيا.

    المستفيد الأكبر من هذا الصراع هو الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فالأولى تؤيد تأزيم الوضع، لأن من شأنه أن يراكم الخلاف التركي الروسي، وهو ما تبحث عنه واشنطن لاحتواء تركيا وإبقائها تحت ظلها، وهو ما قد يشكل ذريعة في الوقت نفسه لتوسيع قواعد الناتو في دول القوقاز، التي تعتبر الحديقة الخلفية لروسيا، وتهديد أمنها القومي. لذلك، إن التوجه الأميركي يتمثّل في الحفاظ على حالة التوتر هذه، وعدم الموافقة على حلها، إن لم تشكل جزءاً من سياسة احتواء روسيا. أما الكيان الإسرائيلي، فإنه يجد في هذا النزاع فرصة لتوسيع عمله الاستخباراتي لاستهداف إيران والضغط على روسيا، لفك علاقة سوريا بمحور المقاومة.

    المهدّد الأكبر من هذا النزاع في حال استمراره هو روسيا والاتحاد الأوروبي، ولكن في الوقت ذاته، قد يشكل ذلك تقارباً أكبر بين الجانبين لحماية أمنهما القومي ودفعهما نحو التوافق للضغط على تركيا، فالفوضى والإرهاب سيكونان على أبواب الجانبين، وهو ما قد يفرض صيفة اصطفافات مختلفة حتى بين الخصوم في ملفات الصراع الأخرى، وستسعى روسيا للإسراع في إجلاس الطرفين إلى طاولة المباحثات، لقطع الطريق على خصومها. ونجاحها في ذلك يعني تكريس عودتها بقوة إلى الساحة الدولية، وفشلها يعبّر عن إرادة مسبقة للتصعيد من قبل خصومها.

    من النقاط المهمة، ويمكن تلمّسها بشكل واضح من خلال المتابعة والمقارنة بين سوريا وليبيا والعراق، والآن في كاراباخ، أنه مع بدء ما سمي بـ”الربيع العربي” وتطوراته، كانت الدول المتصارعة تعتمد على الحرب بالوكالة.

    أما اليوم، فالدول هي أطراف مباشرة في هذا الصراع، وهو ما يوحي بحدة الصراعات ورغبة كلّ من الفاعلين المتصارعين في تحقيق إنجاز للضغط على باقي الأطراف، فضلاً عن ضعف دور الحظيرة الدولية في ترسيخ الأمن والسلم الدوليين، وهو ما يفرض الحاجة إلى إعادة النظر في دور الأمم المتحدة، وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى الارتكاز على العلاقات الثنائية أو التحالفية لحل الأزمات الدولية.

    من الواضح، وفق المؤشرات، أنه لن تكون هناك حلول جذرية قريبة للصراعات القائمة على مستوى النظام الدولي، في ظل الغموض الذي يكتنف شكل هذا النظام، وفقدان عامل التعاون الدولي في المجالات كافة، بما في ذلك المجال الصحي، وتبدل الاصطفافات والمواقف بين الفاعلين الدوليين تجاه كلّ ملف.