يتشرف موقع “أفريك.تيفي”الالكتروني أن يقدم لجمهوره بحثا قيما للدكتور غيث جمعة سعيد في مجال حقوق الإنسان حول موضوع ” السجون وانتهاكات حقوق الإنسان”، وهو موجها تحديدا للطلبة الباحثين ولمن يريد الاستفاذة وتعميق معارفه في جوانب حقوق الإنسان.
المقدمة
دائما ما تحتل العقوبات السالبة للحرية مركز الصدارة في العقوبات بشكل عام، وازدادت أهمية هذه العقوبات مع بروز قيمة غرضي التأهيل والإصلاح للعقوبة، على اعتبار أن سلب الحرية هو الإطار العام الذي تباشر فيه الأساليب التي تؤدي إلى تحقيق العدالة والردع، ولكن تعرضت هذه العقوبة إلى سيل من الانتقادات بعد أن أصبحت أزمة وعبئا على قانون العقوبات، وأثارت جدلا بين فقهاء القانون الجنائي حول جدواها في السياسة العقابية، فأصبحت مطروحة للنقاش.
مما دعا جانبا من الفقه إلى استبعادها تماما في ظل المساوئ الناتجة عن تطبيقها واستخدام بدائل يمكن أن تحل محلها منها، ويذهب هذا الرأي إلى أن حل مشكلة العقوبات السالبة للحرية، من حيث المبدأ تبدو عجزة عن تحقيق أهدافها، ويجعل ضررها أكثر من نفعها، وقد أشار إلى ذلك مؤتمر الأمم المتحدة الثاني لمكافحة الجريمة ومعاملة المذنبين (لندن سنة 1960) حيث قرر أن إلغاء الحبس قصير المدة غير ممكن عمليا ولا سبيل لحل المشكلة على نحو واقعي، إلا بالتقليل من حالات تطبيق هذه العقوبة حيث لا يكون مقتضى لها، وقد دع المؤتمر إلى العمل على إحلال بدائل للعقوبة السالبة للحرية.
وهناك من يرى الإبقاء على عقوبة سلب الحرية، مع التضييق من نطاقها، حيث يرى الغالبية من الباحثين والفقهاء في علم العقاب أن هذه العقوبة لا يمكن إلغاؤها دفعة واحدة، لأنها تمثل عقوبة لها ما يبررها فهي تحقق أغراضها بالنسبة لبعض الجناة، ولكن يجب على القضاء أن يحسنوا تطبيقها وفق مقتضيات وظروف كل مجرم.
كما ينادي بعض فقهاء الشريعة باستبدال عقوبة السجن بعقوبات تعزيرية، فإن العقوبات في الإسلام شُرعت من أجل المصالح التي تحفظ الضروريات الخمس؛ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وتدرأ عنها المفاسد، وتلزم المجتهد في التعمق في معاني الأحكام بعد معرفة عللها، لهذا من يعاقب الناس على الذنوب يقصد من ذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة مريضه، والإسراف في الحبس يبين عكس ذلك مما يجعل الأخذ بالبدائل هو الأولى.
ونظرا للآثار السلبية والمشاكل المتفاقمة مع ازدياد الأخذ بنظام العقوبات السالبة للحرية قصيرة الأجل، فقد ازداد التنديد من نشطاء ومؤسسات حقوق الإنسان، لأن هذه العقوبة أصبحت عاملا في انتهاكات مباشرة وغير مباشرة، كما إن سلب الحرية لأجل قصير سبَّب في اكتظاظ السجون .
العنف وانتهاكات حقوق الإنسان في السجون
غالبا ما نجد معدلات العنف ضد نزلاء السجون ومراكز الاحتجاز في الأيام الأولى للسجن أو التوقيف، وذلك لحمل المتهم على الاعتراف، أو لتخويف المحكوم عليه من صرامة السجون، سواء من جهة الإدارة، أو من عتاة المجرمين المسيطرين على أنظمة السجن من الداخل، وفي كل الأحوال تجد أغلب الانتهاكات وممارسات العنف التي رصدت في الحبس قصير المدة باعتباره الفيصل في أخذ الانطباع، والانصياع للسلطة القائمة بالتعذيب والعنف.
ومن خلال متابعة التقارير الدورية للمنظمات، المحلية والإقليمية والدولية، فإن حالة حقوق الإنسان في السجون دائما ما تثير القلق، وتزداد الانتهاكات في أنظمة الدول النامية، وعلى سبيل المثال يمكن الاستدلال بتقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، الصادر عام 2007 حول معاملة السجناء وغيرهم من المحتجزين، حيث تبين فيه أن حالة السجون، ومراكز الاحتجاز في أغلب البلدان العربية، لاتزال تعاني من تدهور مطرد بصفة عامة، على الرغم من بعض الخطوات الإيجابية لإصلاح السجون ومراكز الاحتجاز، ولكن غالبية السجون تفتقد إلى الشروط اللازمة لتوفير الحد الأدنى من المعيشة والمعاملة اللائقة للإنسان، وتفتقد أيضاً للبيئة النظيفة، ونقص الرعاية الصحية، وندرة أو انعدام برامج التأهيل والترفيه، ولازالت عقلية إدارة السجون في هذه الدول، تأخذ بفكرة الانتقام من المجرم، وليس الإصلاح والتأهيل، وما يؤكد ذلك أن أغلبها تحت سيطرة وزارة الداخلية، وليس إشراف وزارة العدل والقضاة، ويتفشى في هذه السجون عقوبة الحبس الانفرادي لفترات طويلة، في غرف تفتقد إلى مقومات الحياة، وتطرد أشكال سوء المعاملة، على نحو أكثر فظاعة، وتمارس في مراكز الاحتجاز والسجون أصناف من التعذيب والمعاملة المهينة للإنسانية .
ولقد أقرت الأمم المتحدة الحق في السلامة الجسدية، والمعنوية داخل السجون، بل إن اتفاقيات عديدة تلزم الدول الأعضاء بذلك، بهدف احتفاظ الأفراد الذين يوضعون قيد الاحتجاز، أو في السجن بحقوقهم الإنسانية، باستثناء الحقوق المحددة التي يفقدونها، نتيجة حرمانهم من الحرية بأمر قضائي، فإن التعذيب وسوء المعاملة، وهدر الكرامة يخالف الحقوق المتأصلة لجميع البشر، وبذلك ينبغي معاملة المسجونين والمحتجزين بطريقة إنسانية، وكريمة في كل وقت، منذ لحظة دخولهم إلى لحظة إطلاق سراحهم .
وبالرغم من تطور مفهوم العقوبة من الناحية النظرية، إلا أن تطبيق هذا التطور لا يعكس المأمول، من هذه التغيرات في المفاهيم، بالرغم من التعديلات التشريعية، والضمانات الإجرائية والموضوعية في القوانين الجنائية، ولقد اقترن القانون بوسائل القهر في تطبيق قواعده، وإلزاما لأفراد التقيد بأحكامه، فقد مر بمرحلة رد الاعتداء بالانتقام، الذي كان يفرضه الفرد المعتدى عليه أو الجماعة، إلى مرحلة العدالة التي تنفذها الدولة وحدها دون غيرها، واتصفت القوانين قديما بالوحشية حتى جاءت حركات الفلسفة العقابية التقليدية بمبدأ التخلي عن العقاب الجسدي ورفض علنية التعذيب والتشهير بالجاني، إلى مرحلة المطالبة بالابتعاد عن العقوبات السالبة للحرية، واتجهت الفلسفة العقابية إلى الفصل بين الجريمة والمجرم، وتحليل شخصية المجرم والدوافع المؤدية إلى الجريمة، والدفاع عن المجتمع من أخطار الجريمة، ولقد جاء مفهوم الترفق في العقوبة بهدف البحث عن الإنسان في شخصية المجرم، والابتعاد عن التعسف وحماية قيم المجتمع وحقوق أفراده، واستخراج الجرم من العقوبة، والتخلص من العقاب البدني، وتعويضه بالعقوبات المالية، مثل المغارم والمصادرات، مع ضرورة انتهاج مبدأ تفريد العقوبات، الذي يقرر الجزاء المناسب لمرتكب الجريمة، ومراعاة الأسباب المؤدية إليها والفصل بين أنواع الجانحين طبقا لخطورتهم، ودرجة تأصل الجنوح في شخصيتهم.
إن جرائم العنف والانتهاكات التي تحصل من القائمين على السجون، ومؤسسات الاحتجاز تزداد يوما بعد يوم، وتزداد الذرائع التي تتحجج بها هذه المؤسسات، بالرغم من أن أشكال العنف كافة محظورة ومحرمة، ومجرمة في الأديان والقوانين الدولية والوطنية كافة، وهي عناوين للدساتير الحديثة، ولكن وضع حد نهائي يستوجب الابتعاد عن سلبيات السجون، وثقافة التعامل الفظ مع السجناء، وأيا كانت دوافعها ومبرراتها، وأيا كانت هوية الفاعل أو الضحية، والتهم المنسوبة إليه، فلا يمكن أن نبرر حرق إنسان داخل السجن، دون أن تطال العدالة الفاعل، والأدهى والأمر أن ذلك يرتكب من سلطة تنفذ القانون، و تحت مرأى ومسمع منها دون أن تحرك ساكنا.
وعند الحديث عن عدم تلبية المؤسسة العقابية غاية العقوبة، وأنها أصبحت قاصرة على أداء رسالتها، وأن آثار الحبس وخاصة قصير المدة غاية في الخطورة، يتأكد لنا أن كيان الإنسان المسجون ومستقبله وصحته ووجوده في الحياة مهدد، فهذا يجعل منه إنسانا فاشلا محبطا، لا معنى له في المجتمع، وهذه النتائج تعود بفكرة العقوبة إلى المربع الأول الأكثر سوءا، وبهذا تكون عقوبة سلب الحرية أشد من الانتقام والتشفي، لأنها تدعي الإصلاح والتأهيل بالمحافظة على حقوق الإنسان، ولكن الواقع والمحصلة تبرهن على عكس ذلك، وبالرغم من تلاقي الرأي العام، والباحثين على قصور السجن، في القيام برسالته في إعادة تأهيل المجرم، إلا أن الإلغاء الكامل للعقوبات السالبة للحرية مستبعد تماما، أما المتاح هو إيجاد بدائل للحبس قصير المدة، كي نتجنب العديد من مساوئ السجون ونساعد على إصلاح النظام العقابي .
وبهذا يجب ألا تمس أي عقوبة أو إجراء تحقيق بكرامة الإنسان، وألا يتعرض للتعذيب أو الإهانة والعنف. وسيتناول البحث في المطلب الأول انتهاكات الحق في المعاملة الإنسانية، وفي المطلب الثاني السجن وإهداره للكرامة الإنسانية. وفي المطلب الثالث الاعتداء الجنسي في السجون.
المطلب الأول:انتهاكات الحق في السلامة الجسدية والمعاملة الإنسانية
دائما ما يصاحب تنفيذ العقوبة مساس خطير بحقوق الإنسان ويستمر ذلك في مراحل التنفيذ كافة، وهناك من يقول بأنه من الطبيعي أن هذه العقوبة تبدأ بحجز الحرية بالقانون، وما يصاحبها من إجراءات قانونية قد تعتبر أيضاً مساسا بحقوق الإنسان، ولكن يجب ألا تتجاوز الضرورة التي تتطلبها تنفيذ العقوبة، وكل الآراء بين فقهاء القانون لا تختلف حول تنفيذ العقوبة، ولكنهم يشترطون ألا تتحول إلى تعذيب وانتقام، يهدد الكرامة البشرية، وبالنظر إلى التطور الذي تشهده العقوبة، فالاتجاهات الحديثة تناهض طابع القسوة والإيلام، وتدعو إلى التأهيل والعلاج والإصلاح، بمراعاة الكرامة البشرية، لشخص المحكوم عليه، كي يعود إلى المجتمع شخصا نافعا، معتزا بكرامته، وبكيانه لم تتزعزع ثقته.
ومهما يكن من أمر فلابد أن يحظى الجزاء الجنائي بوجوب تطبيق مبدأ ضرورة احترام الكرامة الإنسانية، حيث لا يتم تحقيق فائدة معينة من التضحية بكرامته، لأنه لا توجد فائدة أعلى من حماية كرامة الإنسان، كما يتطلب تدخل المشرع بسلطته التقديرية في نطاق الحماية الدستورية، القائمة على التوازن بين الحقوق والحريات، والمصلحة العامة، وذلك بتطوير العقوبات التي تنفع بأهدافها المجتمع، ولا تمس الحقوق الدستورية، كما لا يجب التجريم والعقاب بغير ضرورة أو بصورة غير مناسبة.
ولقد ظهر المناداة بحقوق الإنسان في تنفيذ العقوبات، نظرا لما تشهده أغلب أنظمة العالم، من انتهاكات صارخة للحقوق والحريات، مما زاد من اهتمام فقهاء القانون، والمهتمين والمؤسسات الإقليمية والدولية كافة، وظهر ذلك في عدة صكوك وإعلانات وتشريعات ودساتير واتفاقيات، توجب الابتعاد عن التعذيب، والقسوة والمساس بالكرامة .
أولا: المعاملة القاسية واللاإنسانية
إن المعاملة الإنسانية للمحكوم عليه أو المحبوس احتياطيا توجب الحق في الإفراج الشرطي وتخفيض العقوبة، والإجازات العقابية، والتشغيل داخل أو خارج السجن، وتعرف الأمم المتحدة إساءة المعاملة: “بأنها أية أفعال من المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا تبلغ حد التعذيب، وفي ظل المتغيرات في السياسة العقابية، يصبح لزاما على الجهات القضائية، والتنفيذية، إيجاد العقوبات البديلة، التي تصون كرامة الإنسان وتحمي حقوقه، فلقد اختلفت العقوبة في مرحلة التنفيذ، عن العقوبة المحكوم بها، واتجهت نحو التخفيف، ويظهر هذا بوضوح في بعض الدول، مثل البرتغال التي تتبنى نظام الحكم غير محدد المدة نسبيا، فيحكم القاضي على المتهم بعقوبة الحبس بين حد أدنى وحد أقصى، ويتابع سلوكه حتى إذا ما اكتسب قدرا من التأهيل يفرج عنه، ولم يعد الحكم بالعقوبة يعني حتمية تنفيذها، فبالإضافة إلى النظام التقليدي لوقف التنفيذ أدخل القانون الفرنسي نظام الإعفاء من العقوبة ونظام تأجيل تنفيذها .
وبالرغم من حظر استخدام القسوة في مواجهة المسجون، إلا أن أغلب الإحصائيات والتقارير لازالت تشير إلى الإيذاء، الذي يتعرض له السجين، ماديا أو معنويا، أثناء تنفيذ العقوبة، أو الحبس الاحتياطي، ويقصد هنا بمصطلح القسوة: “كل إيذاء لا يصل إلى درجة التعذيب يستوي في ذلك أن يكون جسديا أو معنويا، ولكن الإيذاء الشديد يرقى إلى درجة التعذيب”، ومن ذلك مثلاً ما عرضته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 18 يناير 1978م من دعوى أقامها ضد بريطانيا، عدد من المتهمين بالإرهاب ينتمون إلى إيرلندا الشمالية، بسبب إجبارهم على الوقوف لساعات طويلة، وتعرضهم لضوضاء عمدا، بشكل مستمر لحرمانهم من النوم، بالإضافة إلى تخفيض الوجبات، بشكل كبير لعدة أيام، بالرغم من عدم إقرار المحكمة الأوربية بهذه الأفعال كتعذيب، إلا أنها قضت بأن ذلك يشكل أسلوبا للمعاملة غير الإنسانية، أي الإيذاء، وأيضًا يعتبر من قبل المعاملة غير الإنسانية ،إجبار المسجون على خلع ملابسه أمام حرس السجون، حتى وإن كانوا أيضاً ذكورًا.
إن إنهاء القسوة والمعاملة اللاإنسانية والمهينة للإنسان داخل السجون ضرب من الخيال، لأن القضاء تبنى عدم التدخل في الإدارة الداخلية للسجن، وحتى بعد ظهور اتجاه إشراف القضاء على تنفيذ العقوبة، إلا أنه لم يصل لدرجة توجيه الأوامر إلى المؤسسة العقابية، لتعديل ظروف واقعة على السجين، كما هو الحال في أغلب الأنظمة العقابية وبخاصة العربية، على خلاف ذلك يسير القضاء الأمريكي، فيحق للمحكمة أن تصدر أوامر إلى الإدارة العقابية، وتشكل مخالفة الأوامر جريمة جنائية، وله أن يحدد مهلة لتغيير ظروف معينة، بما يجعلها متماشية مع القانون والدستور .
ونهاية الحياة في السجون المغلقة مؤلمة للإنسان وأسرته، عادة ما يتم الإبلاغ عن تقارير الوفيات في السجن في وسائل الإعلام، ومعظمهم هذه حالات الانتحار، أو جرائم القتل، أو الوفيات تحت تأثير العنف، وهذه القضايا الأكثر اهتماما لدى الرأي العام، والباحثين في مجال السجون، وغالبا ما ينسى أو يهمل من يتوفاه الآجل بالوفاة الطبيعية بسبب الشيخوخة، أو السكتة الدماغية، وبالعادة ما لا يكون الاستعداد الكافي لوسائل الإنقاذ، فالمؤسسات العقابية تهتم بالأمن والحراسة أكثر من الصحة والسلامة.
ثانيا: التعذيب والعنف داخل السجون
مناهضة التعذيب توسعت في الآونة الأخيرة، وأصبحت تشمل العديد من الممارسات المادية والمعنوية من أصناف العنف تعذيبا، ولقد حرصت دساتير العالم كافة على حماية الإنسان من التعذيب في أي مكان وأي زمان، وجاء في الدستور المصري المادة 42 ” كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته بأي قيد يجب معاملته بما يحفظ كرامة الإنسان، ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا، كما لا يجوز حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون، ” وتعذيب المتهم أو المحكوم عليه يخضع لصور متعدد الآن ومنها ما يعتبر إكراها ماديا أو أدبيا، والجامع بينهما الألم والمعاناة البدنية والنفسية، أو العقلية التي تصيب المتهم أو المحكوم عليه، من جراء وسائل التعذيب، وكذلك رفض جميع الوسائل التي تنتزع الاعترافات، بما فيها الوسائل العلمية، مما يؤثر على أقوال المتهم أو دفاعه.
“ويقصد بالتعذيب أيضاً أي عمل ينتج عنه ألم، أو عناء شديد جسديا، أو عقليا، يتم إلحاقه عمدا بشخص ما، بفعل أحد الموظفين العموميين أو بتحريض منه، لأغراض مثل الحصول على معلومات أو اعتراف، أو معاقبة، أو تخويفه أو تخويف أشخاص آخرين، أما المواثيق والمعاهدات الدولية فقد نصت على تعريف التعذيب بموجب المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب بأنه “أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدي أو نفسي، يتم إلحاقه بشخص ما، بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث على معلومات، أو على اعتراف، أو معاقبة على عمل ارتكبه، أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو أي شخص، أو تخويفه أو الضغط عليه، هو أو أي شخص ثالث، أو أي سبب من الأسباب يقوم على التمييز، أيا كان نوعه، أو يسكت عنه موظف رسمي، أو أي شخص آخر يتصرف بصفة رسمية،ولم تستطع ترسانة التشريعات وقف التعذيب عبر الزمان والمكان، وبخاصة في السجون، لأن الفرصة والظروف الثقافة السائدة سانحة، ومشجعة على التعذيب، بتعدد أغراضه ووسائله وذرائعه، فالحماية الجنائية للإنسان تتعلق بأهم وأخطر الإجراءات والعقوبات، التي تمس كرامة الإنسان وحريته الشخصية، لكي يوازي بين مصلحة الفرد من جهة، والمجتمع من جه أخرى، ومعاقبة كل من يعتدي على السلامة الجسدية، أكفالاً لحرية الفرد وحماية لإنسانيته وكرامته.
ونظرا للانتهاكات التي تحصل بمناسبة الإجراءات والعقوبات في اماكن الاحاجاز، فقد سارع المشرع المصري بوضع الحماية القانونية في التشريعات بتجريم الاعتداء على جسم الإنسان، وكيانه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، وتناولت ذلك المادة (242) من قانون العقوبات، أما المشرع الفرنسي بعد الثورة الفرنسية واستقرار مبدأ الشرعية، وإزاء كثير من الأفعال التي تنال من الحق في سلامة الجسم، فجاء في المادة (63) عقوبات فرنسي التي تعاقب كل الأفعال الإيجابية أو السلبية التي تسبب اعتداء على الأشخاص، أما المشرع الإيطالي ينتهج نفس المسار الفرنسي، وأما القانون الانجلوأمريكي يقدم الحماية اللازمة لسلامة الجسم، حيث قسَّم الجرائم في أمريكا إلى جرائم جنائية وجرائم فيدرالية ، حيث تشمل كل مساس بسلامة الجسد سواء بقصد، أو إهمال بسيط أو جسيم، أو تعرض صحة الشخص للخطر.
“هناك ما يقرب من 10.1 مليون شخص سجنوا رسميا في جميع أنحاء العالم، وفقاً لآخر التقديرات التي أصدرها المركز الدولي للمحاكمات الدولية للسجون في دراسات السجون، وهناك الكثيرون الآخرون، الذين إما محتجزون في مرافق احتجاز عسكرية، محتجزين في شكل من أشكال الاحتجاز الإداري، أو التي تحتجزها الشرطة وقوات الأمن الأخرى، مع القليل من الإجراءات القانونية، أو عدم وجودها، وهناك ثلاث فئات عريضة من اهتمامات حكومة الولايات المتحدة، في مجال حقوق الإنسان والشؤون الإنسانية، فيما يتعلق بالأشخاص المحتجزين: 1- ظروف السجن غير الآمنة، بما في ذلك الاكتظاظ وسوء المرافق الصحية، وعدم كفاية الحصول على الغذاء، أو مياه الشرب الصالحة للشرب، وضعف الرعاية الطبية، بما في ذلك عدم كفاية الخدمات المقدمة للأشخاص ذوي الإعاقة؛ 2- إساءة معاملة السجناء من قبل موظفي السجن أو السلطات الأخرى؛ 3- عدم كفاية الحماية القانونية المؤدية إلى سلامة السجناء، فضلاً عن عدم احترام الحق في الانتصاف القانوني أثناء وجوده في السجن. ويتناول هذا التقرير جميع هذه المشاكل الثلاث. وما لم يذكر خلاف ذلك، فإن المعلومات المتعلقة بهذه المشاكل تأتي من أحدث التقارير القطرية الصادرة عن وزارة الخارجية.
والعديد من التقارير تشير إلى التعذيب داخل السجون، حتى بعد كل هذه التشريعات، وكل هذه الضمانات، فلقد رصدت منظمة العفو الدولية على مر السنين التعذيب داخل السجون، ولعل آخرها تقريرها سنة 2015-2016 الذي أبلغ عن حالات التعذيب في صربيا وإندونيسيا وماليزيا وأنغوليا وكوريا الشمالية والفلبين وفيتنام ، وظل التعذيب منتشرا في الصين أثناء الحجز والاستجواب، وفي الهند أبلغ عن حالات وفاة تحت التعذيب، واستمر الإبلاغ في سيريلانكا عن حالات التعذيب والمعاملة السيئة والعنف الجنسي ووقوع حالات وفاة في الحجز، واستمر الإفلات من العقاب، وقالت المنظمة: إن 122 دولة أو أكثر في العالم قامت بتعذيب أشخاص وإساءة معاملتهم .
وفي هذه الأثناء وبينما أكتب في هذا الموضوع صدر اليوم من خبراء الأمم المتحدة التقرير المعني بليبيا الموجه إلى مجلس الأمن بتاريخ 9 مارس 2016، وواصل الفريق تحقيقاته في سيطرة الجماعات المسلحة على مرافق الاحتجاز، والانتهاكات المرتكبة على نطاق واسع في السجون الليبية، وتفتقر إلى الموارد والكفاءة والمهنية، ويتنامى لدى حراس السجون الموقف الانتقامي، وتشمل الضرب والتعذيب وافتقار الخدمة الصحي،ة والاكتظاظ، ومنع الزيارات الأسرية، وتفشي الاحتجاز غير القانوني، ومعظم المحتجزين لم يمثلوا أمام قاض، ومنذ سنة 2011 سجل الذين احتجزوا نسبة مئوية كبيرة، وكانت أسباب الاحتجاز الابتزاز والانتقام والاعتراف القسري.
كما أن المؤسسات الحقوقية تنشر كل عام تقارير تحتوي على جرائم مروعة، ضد الإنسانية ترتكب في السجون، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تقرير حول جرائم التعذيب في سجون، ومراكز التوقيف الفلسطينية، خلال الفترة بين سبتمبر 2011 إلى مايو 2013، وتناول التقرير عددا من حالات التعذيب في سجون السلطة الفلسطينية من قبل أفراد تنفيذ القانون التابعين للحكومتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، التي تضمنت العديد من الأفعال الإجرامية، مثل الضرب والإيذاء الجسدي، والتهديد بالقتل والحبس والتعذيب، والحرمان من النوم والأكل والشرب الصحي، والاستدعاء المتكرر، وغالبا ما يكون للحصول على معلومات، أو لمجرد الاضطهاد للمعارضة السياسية وترهيبها .
أما بالنسبة للعنف في السجون فإنها ثقافة تسود التعامل، ولا يوجد للرحمة والإنسانية إلا القدر الضعيف، وإن أحسن السجون حظا لن ينتهي منها العنف، فالمتتبع للتقارير والدراسات التي ترصد الأوضاع الإنسانية وحقوق الإنسان، تجد أن هذه الثقافة لن تنتهي، فالمحكوم عليه أو الموقوف احتياطيا سيعاني من العنف الممنهج ،من قبل القائمين على السجن أو النزلاء الآخرين، وذلك ما تؤكده دراسة ميدانية في الأردن حول العنف داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، ويبدأ من الشغب وإتلاف الأشياء إلى العنف بين النزلاء والعنف بين الإدارة والنزلاء، وتخلص الدراسة إلى أن العوامل الإدارية والزيارات والازدحام وإحباطات الحياة في السجن ومستوى الأمن وتطبيق القواعد، كلها عوامل تزيد من نسبة العنف أو تنقصه أحيانا.
المطلب الثاني:السجن يهدر قيمة الإنسان وكرامته
إذا استعرضت تقارير حقوق الإنسان في السجون وقواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين، نلاحظ أنه ليس للإنسان قيمة، والمقصود هنا الإنسان الذي قدر له أن يكون في السجن، وهذه الحقوق لا وجود لها في الواقع بل هذه مجرد نظريات تدرس ولا تطبق، فواقع السجون لا يتغير، ونظرة السجان للمسجون باقية؛ نظرة الحارس القاسي المخول من المجتمع بالانتقام من المجرم داخل السجن، لأن هذا المجرم عديم الإنسانية لا يستحق إلا العنف، والانتقام والتشفي منه، وهو بذلك لا يستحق الحقوق لكونه مجرما، فالواقع الثقافي المتردي يقول: إن المعاملة تكون باعتباره كائنا حيا متوحشا مفترسا، يتطلب فقط سبل المعيشة العادية، وأقل من العادية، مع الحراسة المشددة والتعنيف دائما، وهنا من خلال هذه الوقائع نجد أن حقوق الإنسان في السجون ضربا من الخيال فلا أحد يسجن يقول أنا إنسان.
وإذا خلصنا إلى أن المعاملة تهدف إلى سد حاجات النزيل، وتعليمه وتدريبه وإرساء ثقافة نافعة له، فإنه من المنطقي أن تكون هناك فترة كافية، لتحقيق هذه الاحتياجات، حتى يتم غرس الرغبة الأكيدة، لدى النزيل لأن يكون مواطنا صالحا يخدم القانون، ويعتمد على نفسه في الحياة الاجتماعية، بعد إطلاق سراحه، وبناء على ذلك لا تعد العقوبات السالبة للحرية صالحة لتنفيذ المعاملة الفعالة، وهذا ما تشترطه قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين.
فالإنسان الذي أجرم في نظر المجتمع طبقا للعقوبات السالبة للحرية يعامل معاملة الحيوان المفترس لخطورته، وأحيانا أقل مرتبة من الحيوان، ذلك لأن المجتمع ينظر إلي سلوكه على أنه غلبت عليه الطبيعة الحيوانية، ومن ثم يعامل على هذا الأساس بخلاف باقي المجتمع، وهذا التفكير القديم يتجدد في عقول حراس السجن، وبعض القائمين على أمن الدولة، وهذا بخلاف قانون الطبيعة الذي استندوا عليه، وهذه العملية لا علاقة لها بالعقل والمنطق، وإنما تحكمها الغرائز وقانون الغاب والبقاء للأقوى، أما الجريمة فالإنسان يدرك بالفطرة التجريم، وارتكابه لها لا يعدو استخداما لحقه في الاختيار وإن جانب سلوكه الصواب، فله حق الاختيار وحرية الإرادة، وهما من طبيعة الإنسان الذي بدونهما يفقد ذاتيته.
إن اعتبارات الأمن دائما ما تقف حجر عثرة أمام تقدم حقوق الإنسان في السجون، ولاعتبارات أمنية يمنع الإنسان داخل السجن من حقه في المراسلات والزيارات والتعبير، والخروج في إجازات، وحقه في ممارسة الشعائر الدينية، ودائما ما يغلب على الوضع القانوني طابع الرخص والامتيازات، فالقانون الذي ينظم العمل داخل أو خارج السجون يجد الإمكانات والفرص ضعيفة أمام متطلباته، فأصبحت الحقوق التي يقرها القانون تتحكم فيها إدارة المؤسسة العقابية، بمنحها كمكافأة أو امتياز لبعض السجناء، وأحيانا تستغلها لأغراض غير نزيهة، فإن الإدارة وحراس السجن عندما يرون معاقبة السجين بالقهر، فلهم من التشريعات والإجراءات الأمنية ما يجعلهم يستغلون تلك السلطات، في التعذيب النفسي والمعاملة غير الإنسانية، كالتفتيش البدني، والمراقبة المستمرة، ومنعه من النوم لبضع ساعات بحجج مختلفة، فالإفراط في استخدام العقوبات التأديبية، والحبس الانفرادي، وإن الدراسات التي أجريت على أسباب الانتحار في السجون كان العنف، بأنواعه كافة من تعذيب واعتداء جنسي، ونفسي ولفظي وغيرها من الضغوط النفسية هو السبب.
إن اكتساب المسجون خبرات إجرامية وسلوكيات فاسدة، ممن سبقوه في مجتمع السجن، وعلى رأسها العنف، الذي يبدد العطف والإنسانية، والاحترام من نفسية المسجون، يأتي نتيجة الشكوك التي تساور نزلاء السجن في معاملاتهم، وفي ظل تواجد عدد كبير من معتادي الإجرام، الذين يسعون إلى إيجاد حالة من عدم الاستقرار، في المؤسسات العقابية، حتى يتمكنوا من الاستمرار في سلوكهم الفاسد، من خلال فرض سطوتهم، ودفع غيرهم إلى الخوف منهم، واستخدام القوة للدفاع عن حياتهم، وأغراضهم الشخصية، كما أن الاستغلال ينتشر حسب ثقافة السجن، حيث إن متطلبات النزلاء غالبا لا توفرها إدارة السجن، وذلك يفسح المجال أمام حراس السجن وبعض السجناء استغلال حاجة السجين، فينتشر الابتزاز البدني والمادي، ومقابل تزويده بهذه المتطلبات يجبر على الخضوع والطاعة، ويسخر كعبد للقيام ببعض الخدمات والانصياع إلى الأوامر التي تصل إلى الاستغلال الجنسي.
المطلب الثالث:الاعتداء الجنسي في السجون
إن الاعتداء الجنسي في السجون أزمة حقوق إنسان عالمية، ففي كثير من الحالات يكون الجناة هم أنفسهم المسئولين عن حفظ أمن السجناء، سواء أتم ارتكاب الاغتصاب بصورة كاملة أم كان بأي شكل من أشكال التحرش الجنسي، من قبل موظفي السج،ن أو من قبل السجناء، وأحيانا يكون الاغتصاب شكلا من أشكال التعذيب، وتقع كامل مسئولية حماية السجناء على عاتق الحكومة، بغض النظر عن مرتكب الجريمة, ويعتبر الاعتداء الجنسي فشل حكومي في دعم هذه المسئولية، ولا توجد دراسات رسمية في معظم البلدان، عن انتشار الاستغلال الجنسي في السجون، وأيضًا فإن عدد الأفراد الذين اشتكوا بشكل ٍرسمي من تعرضهم للتحرش الجنسي قليل، ومع ذلك فإن معظم مراقبي السجون لا يؤمنون بأن قلة التقارير المسجلة هو دليل على أن السجون آمنة، وفي نفس الوقت فإن السجناء القدامى، وموظفين السجون، ودعاة حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم ، يتفقون على أنه لا يزال معظم ضحايا الاعتداء الجنسي في السجون لم يفصحوا إلا عن شيء القليل، نظرا للخجل والتردد في الحديث في مثل هذه القضية.
ويؤدي الحرمان الجنسي إلى التحول جنسيًّا إلى المثلية، أو ممارسة بعض الطرق الشاذة، لإشباع رغبة السجين الجنسية، لأنه يجد نفسه فجأة في مجتمع من جنس واحد، ولا توجد طرق شرعية لإشباع الرغبة الجنسية فيتحول إلى الطرق غير الشرعية.
وهناك بعض البلدان مثل السويد والسعودية اتخذت بعض الإجراءات من أجل تخفيف وطأة المشاكل الجنسية، ومنها السماح للزوجات بزيارة أزواجهن داخل الزنزانات، وإن كان هذا الحل غير مثالي لأن المكان غير مناسب للمعاشرة المريحة، كما أن إحساس الزوجين بأنهما مراقبين، وعلمهما المسبق بأن لديهما وقت قصير محدود يقضونه معًا يجعل هذه الحلول غير مرضية، وغالبا ما تكون باعثا على التوتر وتنتهي بخيبة الأمل.
ومن الدول التي سمحت بتخصيص غرفة أو أكثر من غرف السجن لمواجهة المشكلة الجنسية، حيث يمارس فيها السجين الجنس مع زوجته، أو قرينته خلال الفترة التي تحددها إدارة السجن، وهي كل أسبوع تقريبا في بعض الدول الإسكندنافية، ويطلقون عليها غرف الحب، حيث يمكن للسجين الذي لا تتجاوز مده ستة أشهر أن يقضي فترة من التاسعة صباحا حتى السادسة مساء، وقد تصل ساعات المدة إلى ثمانية وأربعين ساعة متصلة في مكان مخصص به حجرة نوم، وحجرة جلوس وحمام وبعض تسهيلات المطبخ وتليفزيون وبعض مستلزمات المعيشة، أما في المكسيك يمكن للسجين استقبال زوجته أو خليلته مرتين في الأسبوع كل مرة ثلاث ساعات، وهذه البرامج من شأنها أن تساهم في عملية الاندماج الاجتماعي للنزلاء، أو الحد من التفكك الأسري، ومنع اللواط في السجن، وفي إنجلترا توجد إجازات منزلية لنوعيات معينة من المسجونين، ويسمح بزيارتين فقط للمسجونين، وتكون الزيارة الأخيرة في آخر ستة أشهر من العقوبة.
ومهما يكن من أمر فالعلاقة الحميمية المشروعة تخفف من وطأة التوت،ر وتساعد على تقبل برامج الإصلاح، ولكن تبقى محدودة، وتبقى المشاكل الجنسية منتشرة والأمراض المنقولة جنسيا منتشرة، بانتشار المثلية الجنسية، التي لا يمكن السيطرة عليها في السجون، وما يزيد الأمر فظاعة هو العنف الجنسي، حيث يكون الإكراه من عتاة السجناء الأقوياء على السجناء الضعفاء، أو صغار السجن. وإن الحرمان الجنسي أحد المشاكل الرئيسة في السجون، حيث يسبب العديد من الآثار الضارة، ويكون طريقا لبعض الأمراض النفسية، وسببا لتكوين علاقات جنسية شاذة، لإشباع الرغبة الجنسية، وتؤدي هذه الممارسات إلى انحدار في القيم والأخلاق الدينية، وازدياد سلوك الإجرام، نتيجة التجرد من سلوكيات التقويم واحترام الآخرين، وأيضًا تجرد من يمارس تلك العادات من الإنسانية، إضافة إلى انتقال بعض الأمراض الخطيرة بين النزلاء، وفي السجون المكتظة تكون عواقب العنف الجنسي سببا رئيسا في الانتحار.
ويمكن أن يأخذ الاعتداء الجنسي أشكالا مختلفة ومصطلحات قانونية مختلفة من بلد إلى آخر، وتعرفه مؤسسة الاحتجاز العادل الدولية “بأنه اتصال جنسي غير مرغوب فيه، أو تهديد من قبل سجين لآخر، أو من قبل أحد الموظفين لأي سجين، بغض النظر عن جنس مرتكب الجريمة، ويحدث في سجون النساء والرجال من نفس الجنس أو من جنس لآخر”.
وينتشر العنف أو الاغتصاب الجنسي في سجون العالم كافة، مما يضطر بعض السجناء إلى الدخول في علاقات جنسية مع سجناء يمتلكون قوة أكثر من أجل البقاء على قيد الحياة، ويرتبط الاغتصاب في السجن أحيانا مع بعض العصابات الإجرامية، وأحيانا يتم بيع الضحية وإجباره على الدعارة، وعندما يتم الاغتصاب ينتشر الخبر بسرعة في السجن، مما يجعل الضحية هدفًا لسجناء آخرين، أو لموظفي السجن، ومعظم الضحايا تعرضوا للاغتصاب عدة مرات، فموظفي السجن لديهم السلطة المطلقة على السجناء، ويمكن تقييد حريتهم أو جعل حياتهم صعبة للغاية، إذا رفضوا ممارسة الجنس معهم، في حال رغبتهم في ذلك، ويمكن أن يكون الاغتصاب أداة تعذيب للاعتراف، أو تغيير قناعة، وفي بعض الحالات يمارس في القضايا السياسية كشكل من أشكال الترهيب والعقاب المرعب، ويمكن أن يتم الاغتصاب في السجن مع أي شخص ويعتبر الضعفاء، والشباب صغار السجن، أو صغار الحجم أو السجناء الجدد، أو غير العنيفين أكثر عرضة، ويكون من الصعب إبلاغهم عن هذه الإساءات أو إمكانية حصولهم على مساعدة.
ففي أمريكا تفشى مرض الإيدز في السجون المحلية، والفيدرالية بنسبة 2.1% من إجمالي عدد النزلاء سنة 1997، ونشرت وزارة العدل الأمريكية في عام 2011، بأنه تم التحرش جنسيا بأكثر من 216600 شخص في سجون أمريكا عام 2008، وفي مصر انتهت إحدى الدراسات إلى أن نسبة انتشار الجنسية المثلية بين أفراد العينة بلغت 15.1%، وتشير دراسة أخرى حول المثلية الجنسية واللواط في السجون في كل من الأردن وتونس ومصر ليصل العدد إلى(334) نزيلا، وبلغت النسبة في مصر (120) نزيلا، بنسبة 35%، وفي الأردن (119) نزيلا بنسبة 34.7%، وفي تونس (104) نزيلا بنسبة 30.3%، وخلصت هذه الدراسة في الدول الثلاثة المذكورة إلى أن نسبة الممارسات الجنسية الشاذة، باختلاف أنواعها تصل إلى 67.3% من إجمالي عينة الدرسة. وفي بريطانيا خلصت دراسة بادنبري بعنوان السلوك الجنسي القسري في السجون البريطانية، بعينة بلغت 208 نزيلا تفيد بأن 1% تم إغتصابهم و4% هوجموا جنسيا.
وخلاصة القول أن نسبة الشذوذ الجنسي بين النزلاء في السجون لا يستهان بها بالإضافة إلى من يمارسون عادة ( الاستمناء)، وإن كان ذلك لا يحل مشاكلهم الجنسية، وبعض المنحرفين من الشواذ جنسيا سواء أكانوا رجالا أم نساء يستغلون الظروف المتاحة في السجن لإشباع رغباتهم بأي طريقة، كي يمارسوا سلوكهم المنحرف، وبالرغم من أن الشذوذ الجنسي ظاهرة متفشية في معظم السجون الكبيرة، إلا أنه يعد مرضًا من أمراض السجون له تداعياته الصحية والاجتماعية والنفسية.
ويرى الباحث أن معاملة الإنسان بالسجن خلف القضبان والأغلال والأجهزة والمعدات الحديدية، كلها تعبر عن القسوة التي تحيط به، ماهي إلا تعبير عن إجراءات تفقده قيمته كإنسان، فلماذا لا يتم الابتعاد عن العقوبات السالبة للحرية والمؤسسات العقابية، ذات الأسوار العالية والمدجنة بالأسلحة والسلاسل والأغلال، ولماذا لا يتحرر الإنسان من هذه المنظومة الجائرة، ويتقدم إلى منظومة علاجية أكثر احتراما له بغض النظر عن سلوكه إيجابيا أم سليبا، ولم لا يدخل مؤسسات تأهيلية كما يدخل المستشفى المريض ليعالج فيه من أمراض عضوية، فيختار لكل ما يناسبه دون أن يفقد شيئا من كرامته.
إن العنف هو أداة لتنفيذ كل العقوبات في السجن، وهو تمرير لقانون الانتقام الذي من المفترض أن يكون عفى عنه الزمن، وتجاوزته القيم الانسانية، ولكن ثقافة السجن لم تلغه، وإن احترام الفرد المسجون لا يأتي إلا من رقابة الرأي العام وضغطه على إدارة السجن في توقيت محدود وحالات محدودة، وسرعان ما يعود إلى أشكال العسف من جديد، وبذلك لن تكون السجون تربوية أو إنسانية أبدا.
الخاتمة
إن الفكر الإنساني المعاصر دائما ما يرسخ قيمة الإنسان، ويحث على احترام حقوقه، بغض النظر عن أي شيء يميزه، فالناس متساوون في الحقوق والواجبات، ويجب أن تعزز القوانين البشرية أيضاً هذه المفاهيم، وترتقي بها، والمتتبع لتطور قوانين العقوبات والإجراءات يجد أن قيمة الإنسان تحتل مرتبة الصدارة في تقييم جدوى هذه القوانين، وهذه القوانين قد تحررت من العقوبات البدنية، ليتم استبدالها بالعقوبات السالبة للحرية، وهذا تحول جدير بالاهتمام لأنه جاء على خلاف المتوقع له، وهو إنجاز بشري عظيم، بنقل العقوبة من التعذيب والتنكيل والانتقام والتشفي، والتفنن في أنواع القسوة والوحشية ، إلى منع كل هذه الأساليب والوسائل والاكتفاء بسلب الحرية، إلا أن بعض هذه الممارسات مازالت موجودة في السجون، رغم أنها مستهجنة ومدانة من القانون والقضاء.
ورغم كل التطور الذي حصلت للعقوبات السالبة للحرية، على مستوى مراقبة ضمانات حقوق الإنسان في السجون، والاهتمامات الدولية والوطنية يوما بعد يوم، فإنها غير مرغوبة في الفكر العقابي الحديث، وأصبح هناك إرهاصات ثورة ضد السجون تطفو على السطح لعدة اعتبارات، وما ذكرناه من مشكلات وآثار للعقوبات السالبة للحرية وبخاصة الحبس قصير المدة، وكلما ما ذكر هو غيض من فيض، فكل الإحصائيات والتقارير تؤكد تفاقم هذه المشاكل.
ويتضح من هذا الاستعراض الملامس لهذه المشاكل عن كثب وبالبراهين الإحصائية وخلاصة التقارير عدم جدوى السجون، فالأمر بات ملحا لإيجاد البدائل، لهذا يجب على السياسة العقابية أن تجد مخرجا من هذه المشكلات التي يثيرها حجز الحرية، ولقد ظهرت الدعوات منذ سنوات لتطبيق العقوبات البديلة لسلب الحرية لتجنب آثار هذه العقوبة سيئة الصيت في العصر الحديث.
وكل ذلك وأكثر يجعلنا نسلط الضوء على العقوبات البديلة، وندرس كيفية تطبيقها، واعتمادها في السياسة العقابية اعتمادا أساسيا ليس تقليديا، مما يخولنا من معرفة أنماطها وطرق تطبيقها، ومدى استعداد السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية للأخذ بها.
من خلال هذا العرض نخلص الى نقاط النتائج والتوصيات :
أولا:النتائج
ومما تقدم يمكن استخلاص النتائج التالية :
1- تظهر أهمية قضاء العقوبة خارج أسوار المؤسسات العقابية، وخاصة في صيانة الحقوق والحريات.
2- هناك العديد من نقاط التلاقي في التشريعات العربية، فيما يخص بدائل العقوبات التقليدية، والاختلاف في البدائل الحديثة، وعدم التوسع فيها بالرغم من الحاجة الماسة لذلك، بعكس الأنظمة الجنائية الأوروبية التي فتحت الباب واسعًا من أجل تفادي مساوئ السجون.
3-فشل السجون في أداء رسالتها الإصلاحية، وتزايد معدلات العود، كما تعاني السجون من مشكلة تكدس النزلاء، ويرجع ذلك لإفراط التشريعات في العقاب بالعقوبة السالبة للحرية وإهمال العقوبات الأخرى.
3- يستنتج الباحث أن العقوبات البديلة عن السجن حل حقيقي وإنساني، يساعد على مكافحة الجريمة، وحفظ الأمن والاستقرار داخل البلد.
5- من النتائج المهمة استحداث قاضي تطبيق العقوبات في بعض الأنظمة العقابية، والاشراف القضائي على تنفيذ الجزاءات الجنائية، مع ظهور النظام القانوني للعقوبات البديلة، فالقضاء هو الحارس الطبيعي للحقوق والحريات.
ثانيا: التوصيات
بناء على ما تقدم وفي نهاية المطاف وبعد هذه الرحلة البحثية التي تم التوقف على أهم المحطات التي تتعلق بمساوئ السجون وما أسفرت عنه من نتائج، يرى الباحث أن يقدم مجموعة من التوصيات :
1- يوصي الباحث بإعادة النظر في التشريعات الجنائية، وكل ما يتعلق بالعقوبات السالبة للحرية، وخاصة الحبس قصير المدة، وإجراء مراجع شاملة لهذه التشريعات، لمواكبة الفكر العقابي الحديث، عبر مراحل الاتهام، والتحقيق، والمحاكمة، والتنفيذ العقابي.
2- يوصي الباحث بأن تنص التشريعات صراحة على الضمانات القانونية كافة، التي تحمي المحكوم عليه، من مساس العقوبة بحقوق الإنسان واحترام كرامته، واشتراط القانون موافقة الجاني على التدابير غير الاحتجاجية.
3- يوصي الباحث أن يتم دراسة العقوبات التكميلية والتبعية والتدابير الاحترازية، التي جاءت في الأنظمة العقابية، وتحويلها لعقوبات بديلة لعقوبة الحبس، فهي تصلح أن تكون من ضمن العقوبات البديلة، ويجب أن يكون الجزاء من جنس العمل، بمعنى أن تكون العقوبة لها علاقة بالجرم، وعلى سبيل المثال يعاقب بإغلاق المؤسسة أو سحب الترخيص من يرتكب جريمة لها علاقة بمهنته .
4- إدخال بدائل جديدة إلى المنظومة العقوبة في البلدان العربية، وليس ضروريا الأخذ بجميع التدابير البديلة عن الحبس، ويكفي الأخذ بالجزاءات التي يمكن تطبيقها على أرض الواقع، بالنظر إلى كل الظروف المساعدة على التطبيق اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا في كل بلد.
5- يوصي الباحث ألا تلحق العقوبة البديلة ضررا بالمحكوم عليه سواء من الناحية الجسدية أو النفسية.
6- يوصي الباحث أن يكون هناك من الضمانات الجدية التي تدعم الأمل في تأهيل المحكوم عليه اجتماعيا، بعد الإفراج عنه؛ وأن يكون هناك قابلية للتعديل، تبعا للظروف التي تطرأ على شخصية المحكوم عليه ومتطلبات ومفترضات تأهيله اجتماعيا.
7- يوصي الباحث منح سلطة إلغاء العقوبة لذات القاضي المختص، الذي أمر بها ، واستحداث قاضي تطبيق العقوبة، كي يكون حلقة وصل بين القضاء والمؤسسات العقابية، ويمكن من التدخل أثناء التنفيذ، وإقرار البدائل التي يراها مناسبة.
8- الأخد بنتائج الدراسات السابقة في وضع الشروط أو الضوابط لإقرار العقوبات البديلة، فمن الممكن أن تترك بدائل العقوبات آثاراً سلبية على المذنب، وبالتالي قد لا تحقق أهدافها المرجوة.
9- وضع استراتيجية متكاملة وتوسيع ثقافة العقوبات البديلة، والأخذ بكل الوسائل التي من شأنها زيادة تفعيل الدور الهام الذي تؤديه العقوبات البديلة في القانون الجنائي.
10-إن التحديث أو التغيير في العقوبات لا يقع على عاتق المشرع والقاضي والمؤسسات العقابية فقط، بل يمتد إلى تغيير ثقافة مجتمع بدعم من مؤسسات حقوقية وإنسانية واجتماعية ، والإعلام والثقافة والدراسات والبحوث التي تطور هذا المفهوم وتتدارك مشاكل التطبيق، كما تحتاج العقوبات البديلة إلى إرادة سياسية لوضع خطة تحقق تطلعات رجال القانون والقضاء .
11- النظر إلى العقوبات البديلة كتدابير عقابية مستقلة، عن العقوبات السالبة للحرية ، وهو ما يستوجب إعادة صياغة الأحكام المتعلق بها.
12- يوصي الباحث أن يولي المشرع الليبي اهتماما اكثر بمرحلة التنفيذ الجنائي، لأنها ثمرة الجهود التي تسعى لها السياسة الجنائية، وان يستحدث تشريعا يوحد كافة القوانين ذات العلاقة بالتنفيذ الجنائي في قانون مستقل يسمى “قانون تنفيذ الجزاء الجنائي”،يفسح المجال للجزاءات الحديثة والعقوبات البديلة، كي تواكب التطور الذي طرأ على الفكر الجنائي في تنفيذ العقوبة والتدابير الاحترازية.
13- يوصي الباحث بأن يجرى الباحثين المزيد من البحوث والدراسات حول إمكانية تطبيق العقوبات البديلة، والصعوبات التي تواجه تنفيذ هذه الأحكام، وقياس فعاليتها بطرق علمية ودراسات دقيقة .
انتهى بحمد الله
للإطلاع على قائمة مراجع البحث يرجى النقر على الرابط التالي
السجون وانتهاكات حقوق الإنسان