الإبداع السياسي مُجمّد بين فكي المتسلقين الانتهازيين وقوم الجهلاء
بقلم / محمد القاضي
مما لا ريب فيه ان كل فاعل سياسي أو مهتم بالشأن السياسي ترسخت لديه فكرة مفادها أن هناك فكر سياسي ليبرالي وفكر سياسي اشتراكي وفكر سياسي تقدمي حداثي وفكر سياسي يميني وفكر سياسي يساري .. الى آخر اللائحة.
غير ان الواقع أثبت أن هذه التسميات والتوصيفات يمكن تشبيهها بكؤوس ملونة لها نفس الحجم ونفس السعة وتؤدي نفس الوظيفة ، إذ لا فرق بينها سوى ألوانها.
عندما نتأمل في سلوك الفاعل السياسي الحزبي بالمجتمعات النامية ، سواء كان من اليسار أو اليمين أو الإسلام السياسي أو من أي لون، فإننا نسجل تعاطيه مع الشأن الداخلي والشأن الدولي بنفس الكيفية وبنفس الأسلوب وبنفس العبثية والارتجالية .. وينفذ أجندات البنك الدولي وإملاءات السيد الفريي بنفس الجرعات وربما يكون هناك تنافس بين هذه الألوان في خدمة الأجنبي… وآخر شيء يمكن أن يفكر فيه هو مصلحة من صوتوا عليه ومستقبل وطنه.
والقاسم المشترك ايضا بين هذه الالوان السياسية هي انها تزيح الكفاءات وتحاصرهم في الاستحقاقات السياسية سواء الننظيمية او العمليات السياسية ، إذ معظمها تعمد الى تزكية الأغبياء والجهلاء والاميين الذين لا قدرة لهم لا على انتاج برامج او تصورات مجتمعية ولا على انتاج إجابات حقيقية على أسئلة التنمية المستديمة ولا على مواكبة ركب التنمية .
وهذا في حد ذاته مشكل بنيوي عويص ، يتسبب في مراكمة عوامل الفشل والتخلف والهشاشة الاجتماعية والاقتصادية وتحويل المجتمع إلى مستهلك لا منتج.
بيد ان مواكبة التطور واللحاق بركب التنمية وإرساء قواعد الأمن الأهلي والسلم الاجتماعي والتحرر من التبعية تتطلب القدرة على الابداع السياسي وإنتاج رؤى وتصورات مجتمعية والقدرة على بلورتها بشكل صحيح وسليم في إطار خطط قصيرة المدى ومتوسطة المدى وخطط استراتيجية يتم هندستها على أساس متطلبات دقيقة ومضبوطة وتنفيذها في الأسقف الزمنية المرسومة لها مسبقا.
وهذا لن يتأتى الا من خلال الاعتماد على الكفاءات الوطنية والاطر الشابة التي تفكر بحس الانتماء الوطني والسعي الى استقطابها والعمل في إطار عقيدة وطنية مبنية على صيانة السيادة الوطنية وقيم المواطنة..
وفي مقابل ذلك يجب ابعاد عديمي الكفاءات وعديمي الأهلية من مواقع المسؤولية سواء كانت تنظيمية أو تمثيلية لأجل ضمان استمرارية الدولة وتطورها.
الفاعل السياسي الذي يتوفر على أهلية علمية وحنكة سياسية وله دراية بفن السياسة وتضاريسها وجغرافيتها وله حس تحليلي ومواكب لما يجري في الساحة الإقليمية والدولية من تغيرات وتطورات ،يستطيع ان يخلق لنفسه هوامش المناورة والإبداع اللازمة لتحويل مسار السيل، وتضييق جوانبه، وتجفيفه، والقدرة على تدبير الأزمات والمفاوضات مع المؤسسات الدولية بما فيها الكيانات السياسية بنوع من العقلانية والنجاح الباهر.
أما السياسي الذي ينبطح في أول امتحان له أمام إملاءات البنك الدولي وينفذ ما يطلبه منه، فإنه سياسي فاشل ولن يجلب لبلده سوى الدمار الثقافي والفكري والاجتماعي والاقتصادي ..
البنك الدولي لا يعطي القروض مجانا ولا يمن على أحد، ومن ثمة لا ينبغي الخضوع لابتزازه أو املاءاته، ..
مثلا البنك الدولي طلب من بنكيران ضرب التعليم وضرب التقاعد وضرب قطاع الصحة تحت بند ما يسميه هذا البنك المفترس والمخرب “إصلاحات بنيوية”..
فليذهب هو وإصلاحه البنيوي إلى الجحيم ، لأنه بكل بساطة هو أداة غربية لردم المجتمعات النامية واضعافها ونهب خيراتها وسجنها في أوحال من البؤس والفقر والمخدرات والجريمة .
لنتذكر الحلول التي كان ينوي ممارستها الفاشيون في بلاد العالم ومارسوها فعلاً، حرب إبادة فعلية للبشرية. فالإمبريالية كانت تدري أن البشرية يجب أن تفقد مرجعيتها الفكرية تحضيراً للهيمنة المطلقة. ولأن البشرية تعرضت فكرياً لهكذا مسار، تمّ سلب القوى الاجتماعية سلاحها الفكري الأمضى: الفكر الجدلي المادي وتراثه التاريخي. وأكثر ما نرى ذلك في ملامح التنظيمات السياسية التغييرية التي ما زالت الأزمة تباغتها بالضربات، وهنا يبدو أنه لن تكتب النجاة لغالبية هذه القوى. فهي غير مسلحة فكرياً بالمنهج .
فوقعت تلك القوى البشرية والسياسية في هوّة الميكانيك الميّت. لن يقدر الفكر الميّت القبض على واقع حي، ومعقد، وجديد، فهو يفتقر إلى المكون الإبداعي: وعي التناقض. التناقض الجديد، والتناقض الخالق لكل ظواهر الصراع. ومن يرمي التناقض المادي، يرمي على قارعة التاريخ القوة الخالقة للجديد، ويفقد بذلك قدراته الإبداعية.