آراء حرةالرئيسية

أوهام مفخخة تكلف البشرية غاليا جيلا بعد جيل

بقلم / محمد القاضي

من حسنات النكبة الوبائية التي غزت شعوب الأرض سنة 2020 بتدبير يعلمه الله ولا نعلمه، أنها فسحت المجال لعشرات الألاف من الناس للابداع والابتكار ومراجعة الذات والتدبر في أمور كثيرة…أما عبد ربه لم يبدع ولم يبتكر، ولكنني استغلت فترات الحجر الصحي في مراجعة أفكاري وغربلتها وقراءة المزيد من الكتب التاريخية والفكرية وتاريخ الأحداث والفكر والعديد من العناوين الغنية بالمعلومات.
وخلال العطلة الاسبوعية المنصرمة، قررت أن أخرج للطبيعة بشكل فردي لأحاور ذاتي وأسائلها حول الكثير من القضايا الفكرية والسياسية والانسانية والتأمل في الطبيعة التي احتضنت خلوتي والتأمل في تركيبتها ونسقها والكائنات التي تحتويها من نبات وحشرات ومخلوقات أخرى ومحاولة إسقاط هذا النسق الطبيعي المحكم على نظام حياة الإنسان…
وكلما كنت أتأمل وأزداد تعمقا في التأمل، كانت تستحضرني أفكار متناثرة كثيرة من اللاوعي التي اختزنتها أثناء قراءتي للكتب السالف ذكرها خلال فترات الحجر والصحي وما قبلها بكثير خلال مرحلة المسارات الدراسية..
هذا التمازج بين الافكار المتناثرة التي تدفقت من اللاوعي والتأمل في جمال الطبيعة ونسقها، أنتج لدي نسقا فكريا جديدا تولدت عنه حقائق كانت محجوبة عني لسنوات تهم الإنسان وقيمه ومساره الملغوم في هذه الحياة من جيل إلى جيل.
الحقيقة الأولى هي أنه في هذه الحياة إما أن تكون شخصا جيدا وحسنا، سيدا على شخصك أو شخصا سيئا شريرا، عبدا مملوكا لشيء أو لفكرة أو لنزوة ، أو شخصا انتهازيا وصوليا، لا هو بسيء ولا هو بجيد… لأنه يخفي ميولاته، فكلما أتيحت له الفرصة للتسلق، تتسلق معه درجة شروره.
الحقيقة الثانية تربط بالخط الايديولوجي للفكر، إذ أن هذا الوهم الإيديولوجي قسم المجتمعات إلى عدة طوائف ومذاهب وأحزاب وتكتلات مصلحية، وتسبب في اندلاع حروب كبرى ونزاعات مدنية وأخرى مسلحة راح ضحيتها الملايين من الناس لأسباب تافهة ” كأن أقول لك أنت شيوعي وأنا اشتراكي”، أنت قومي وأنا ليبرالي، أنت صهيوني وأنا نازي وغيرها من الخطوط الوهمية…. والحقيقة أن كل هذه التسميات لا فرق بينها غير الفرق في حروفها ونطقها لأنها كلها مخدومة ومطبوخة على المقاس في غرف مظلمة لتشتيت البشرية وإلهائهم في اختلافات وخلافات وهمية.
وكل من تم تكليفه بحمل لواء أحد هذه التسميات ؛ استطاع للاسف سرقة عشرات الآلاف من الناس من أنفسهم من خلال تخديرهم وتلقيحهم بهذا الوهم أو ذاك …وكل واحد من هؤلاء المكلفين / المجندين ( سواء كان يعي أنه مجند أو لا يعي ) يدعي ويتظاهر بالدفاع عن حقوق الانسان وكرامة الانسان والعيش الكريم للانسان؛ ويشحد همم أتباعه ويحاول استقطاب المزيد من الناس حول وهمه دون أن يدروا أنهم مجندون لضرب الوحدة الإنسانية وسلمها الاجتماعي ورخائها وأمنها وآمانها؛ بينما المكلف / المجند وعصبته يضعون نصب أعينهم هدفا واحدا وحيدا هو الوصول للسلطة…. هناك من اختاروا الدين كوسيلة للوصول إلى السلطة، وهناك من اختاروا بؤس الطبقات الكادحة شعارا لهم، وهناك من اختاروا كرامة الانسان عنوانا لطبختهم من خلال “دعه يمر دعه يعمل” وهناك من اختاروا النعرات العرقية والثقافية والمذهبية وإذكائها وسيلة لامتطاء صهوة جواد الوصول للسلطة.
والحقيقة أن كل طباخ من هؤلاء الطباخة، مجرد أن يتمكن من الوصول إلى السلطة، يعيد إنتاج نفس أساليب الاستبداد والتنكيل والنهب والغطرسة والقتل وتكميم الأفواه التي نشؤوا على أنقاضها، ويضعون شعاراتهم تحت أقدامهم .. أما الذين وصلوا إلى مبتغاهم واختاروا الطريق الصحيح والسليم لخدمة الانسانية ومجتمعاتهم، تتكالب عليهم الشرور من كل صوب وحدب إلى ان يتم النيل منهم بطريقة أو أخرى.
فإذا اختزلنا هذه الطبخات في قطاع معين” كقطاع التعليم مثلا ببلادنا، سنجد أن عملية ردمه والإجهاز عليه بدأت بشكل عملي منذ قانون المغربة، أي منذ تعريبه بالتدريج في بداية الثمانيات…. منذ ذلك الوقت وأوضاع تعليمنا تزداد سوء بعد سوء باسم إصلاحه وتجويده وباسم الرفع من مردوديته وباسم تكييفه مع متطلبات سوق الشغل… ولكن لا جودة تحققت ولا مردودية حصلت، ولا أحد يتحدث عن الملايير التي تختفي تحت عناوين هذه الاصلاحات…
إذن كل الخطوط الايديولوجية أو التطاول على نصوص الديانات وتحريفها وتأويل نصوصها على المقاس وتقسيمها إلى العديد من المذاهب العقائدية، هو تدبير بفعل فاعل، وهذا التدبير ليس وليد اليوم، بل منذ مئات السنين، ونتج عن ذلك طغيان واستبداد وتوحش وفسق وفجور والتأله على الناس وادعاء الربوبية، وفي محطات كثيرة من حقب التاريخ الإنساني، كان يتدخل الله بشكل مباشر عبر رسله وأنبيائه لهداية الناس وإنذارهم وتبيان الحق من الباطل، وهناك كثير من الأقوام السالفة أبادهم الله بعد أن رفضوا وتهكموا من الأنبياء الذين بعثهم الله لهم والسخرية من رسالتهم، ولنا في ذلك أية لعلنا نتذكر.
أما في عصر التكنولوجيا والرقميات وتداول المعلومة وتحويل العالم إلى قرية صغيرة، أصبحت وسائل الإعلام وأجهزة التلفزيون والاذاعات والسينما وصفحات المجلات والجرائد تتبارى على شيء واحد خطير هو سرقة الانسان من نفسه بالكذب والتضليل والتدليس ولعب وظيفة الالهاء والفبركة على المقاس، وشد عينيه وأذنيه وأعصابه وأحشائه ليجلس مستمرا كالمشدوه أمام التلفزيون أو شاشة هاتفه والروتين اليومي،وقد تخدرت أعصابه تماما كأنه أخد بنجا كليا وراح يسبح بعينه مع التيار الذي جرفه.
في حين أن الخط الاديولوجي الحقيقي الذي هو الإنسانية باعتبارها عنوانا لنا جميعا ومظلتنا وصفتنا المشتركة ، يقتضي من وسائل الإعلام أن تتحول من أفيون إلى منبه يفتح العيون والأحاسيس على الحقيقة، ويدعو كل قارئ إلى وليمة الرأي وكل عقل معطل إلى مائدة الفكر، فتكون كرحلة تحشد الحماس عند كل محطة تقف عندها لا كخيمة للغاز المسيل للدموع مضروبة على الناس أو قنابل دخان تطلق التعمية.
إن حضارة الإنسان وتاريخه ومستقبله وسلامه وأمنه واستقراره وارتياحه مرهون بكلمة صدق وصحيفة صدق وشعار صدق، فبالحق تعيش وليس بالخبر وحده أبدا.
فالشخص الذي ينشغل بجمع المال وامتلاك العقارات وتكديس الأسهم والسندات، بطريقة غير أخلاقية ، أو ينشغل بالتسلق على المناصب وجمع السلطات بطرق تحايلية ، أو ينشغل بالحريم وموائد المتع ولذات الحواس والبحث عن السلطة لكي يستثمرها في السطوة والغنى والمسرات الذاتية والاستبداد، فإنه شخص مملوك وعبد ، مملوك لأطماع وشهواته، وعبد لرغباته التي لا شبع لها ولا نهاية.
فالمعنى الوحيد للسيادة هو أن يكون الشخص سيدا على نفسه أولا قبل أن يحاول أن يسود غيره ، وأن يتحرر من أغلال طمعه ويقبض على زمام شهوته وأن يحترم بني جنسه وأن يكون في خدمتهم وأن ينضبط من تلقاء نفسه للقوانين التي تكرم الإنسان وتشيد بإنسانيته وأدميته وتدبير الاختلافات والتنوعات الثقافية والفكرية على أساس هذا الانضباط ليعم السلم والسلام والمحبة والتآخي والعيش الآمن في كل بقاع الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى